واحدية الهم وتعدد زوايا النظر (2-2)

عبدالله أحمد حسين*


3- هموم المعيشة:
سجلت هموم المعيشة موضوعا خصبا ضمن موضوعات الكتاب, ومن الصور الجميلة لهذا الموضوع ما نجده في قصة “خبز” لكلاديس مطر, حيث تصور شخصا يلتزم بالنظام في طابور شراء الخبز رغم قلة النظام والفوضى “كان واقفا وفي يده قطعة النقود لا يتحرك من مكانه”: “أشفقت عليه وربما أحببته بعمق, فمن يعي اليوم درسا في الحضارة ويداه فارغتان من كيس الخبز.”30
وفي نص “حظوظ” للكاتبة الفلسطينية مجد حلبي يطالعنا هذا المشهد الذي يصور هموم المعيشة ومعاناة الفقراء في حياتهم اليومية: “كلص أعياه الجوع تسرق الحياة الكيس من امرأة عجوز كانت قد تسولت لتطعم أبناءها الأيتام.. إنها دائما تنتزع منهم الفرحة..”31
ويعرض نص “السارقة” للكاتبة المصرية رجاء محمود سعيد صورة إنسانية مؤثرة, جاءت على النحو الآتي: “ألقوا بها خلف القضبان..
حين قدموا لها الطعام, أخذت تقلب بصرها بين السقف والصحن…
تحسرت على أبنائها الطلقاء!!”32
ويطرح نص “نخلة” للكاتب العراقي محمد فزاع شايب قضية العمالة في دول الجوار التي يعاني منها أبناء العراق وغيرهم, ويصور معاناتهم وما يلاقونه في غربتهم تلك حيث نقرأ: “وصل عبر الحدود إلى المملكة.. احتضنته الصحراء, شرب من قهوة الصبر, رعى أغنام القوم, انتظرها سنين لم تعطه لبنا, صعد إلى التلة رأى نخلته تبكي وثمارها تتساقط.”33
هذه الحياة القاسية لا يعدها البعض حياة, وإنما يعتبرها على النقيض من ذلك, ويعد الخروج منها بمثابة الحياة, وهذا ما يعكسه نص “حياة” للكاتب المصري أحمد سعيد حيث نقرأ: “حملوا جثمانه إلى مثواه الأخير, ومع آخر لبنة وضعوها على باب قبره مزق الكفن, وانتفض واقفا. أحس لأول مرة بالحياة!!”34
ومن الصور الطريفة المتعلقة بهذا الموضوع تلك الصورة التي ينقلها نص “الأغنياء يشترون الكفن” للكاتب المصري عادل حماد سليم حيث نقرأ: “عاش فقيرا معدما.. يلتقط غذائه من أكوام القمامة, يلتحف العراء.. ملابسه المهلهلة لا تستر إلا اليسير من جسده, الأثرياء الذين كانوا يشمئزون منه وينهرونه إذا اقترب منهم.. حينما مات تسابقوا لشراء الكفن.”35
ومن أقسى المواقف التي رصدتها نصوص الكتاب هذا الموقف الذي يطالعنا به الكاتب المغربي جامع هرباط في نصه “صرخة ثقيلة”: “أتعبتها الأكياس الثقيلة. وضعتها أرضا. تنهدت أنفاسها بسرعة. تذكرت حافظة النقود. فتشت في جيوبها فلم تجدها فصرخت صرخة ثقيلة مما كانت تحمل وهي متجهة إلى البيت..”36
وكان لثورة الربيع العربي نصيبها الوافر ضمن نصوص المجموعة, ففي قصة ثورة للكاتب اليمني محمد الغربي عمران نجد صورة طريفة للثورة حيث نقرأ: “نزلت القاهرة مؤخرا.. صاحب التاكسي مشغل قرآن.. المقهى.. راكب الدراجة النارية .. المتاجر.. بائع الصحف.. الكل يرفعون صوت القرآن ..”
فقد يتساءل القارئ وما وجه الطرافة هنا, أليس من الجميل أن يستمع الناس للقرآن في كل مكان¿! ولكنه سرعان ما يعود عن هذا التساؤل عندما يقرأ بقية النص: “سألت أحدهم فقال: مصر في حالة عزاء.”37
هذه الإجابة الصادمة والغير متوقعة تدل على نظرة ثاقبة ونقد واع للكثير من تصرفاتنا اليومية ودعوة للتحرر من التبعية العمياء لسلطة بعض النافذين, مهما كان نوعها وشكلها.
وفي السياق ذاته نجد تصويرا بارعا لمدى تغلغل آثار الحروب في حياتنا اليومية وهيمنتها حتى على عقول الصغار, نجد ذلك في قصة “ثأر” للكاتب المغربي عبدالحميد الغرباوي,: “الولد الذي يجلس اللحظة يرسم..
منذ قليل كان يجهش بالبكاء.. شده الحنين إلى والدته, أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى..
يرسم الولد كوخا بمدخنة وحوله عشب فلا دخان يخرج من المدخنة, ولا نداء يأتيه من عمق الكوخ, واخضرار العشب يتحول إلى اصفرار..
يرسم الولد شمسا فلا يضحك.. عندليبا فلا يغرد..
يرسم الولد طيارة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء..”38
إن التكرار للفظة يرسم الولد بهذه الصورة الملفتة لا يأتي عبثا فهو يفضي في كل مرة إلى حالة مختلفة كل الاختلاف عن سابقتها فتشترك جميعها في تشكيل رؤيته والتعبير عن حالة الحزن المسيطرة على الفرد نتيجة الإحساس بالفقد وتوقه للثأر ممن حرمه والدته وأخته, مما جعله يعيش شعورا مليء بالحرمان وقد انعكس ذلك على علاقته بما يرسمه, فالمدخنة لا دخان/حياة فيها, والكوخ لا صوت/ حياة تنبعث منه, واخضرار العشب/حياته يتحول إلى اصفرار/ موت, وهذا كله يعزز ما ذهبنا إليه ويؤكده, فالنص يندد بجرائم الحروب ويؤكد على بشاعتها وقسوتها وما ينتج عنها من آثار, ومثل ذلك ما نجده في قصة “شيزوفرينيا” للكاتبة المصرية نسرين البخشونجي, التي تطالعنا بهذا المشهد : “…تغير القناة لتشاهد فيلما كوميديا, وفي أسفل الشاشة مكتوب على شريط أحمر.. عاجل:

قد يعجبك ايضا