عن طفولة اليمن الحزين
عبدالحليم سيف
في ليلة شتوية شديدة البرودة من ليالي صنعاء القارسة وقبيل رحيل عام2014 جلست وحيدا في الغرفة لأكتب هذه المقالة..˜نت أعتقد قبل أن أبدأ أن المسألة سهلة وأنني لا أحتاج سوى لدقائق معدودة من ساعات تلك الليلة..انقل من خلالها بعض الخواطر علي الورق ثم اكتشفت أن معظم الأفكار التي كونتها أخذت تغادر رأسي والغرفة.˜نت أخطط أن أستشرف المستقبل وأتحدث عن أمنيات ناس بسطاء يحلمون بوطن بلا خوف..لا مكان فيه لروائح الدم..وطن يغرق في مهرجان الفرح وصخب الصغار وأصوات الشباب والنساء والرجال. لا صرخات الجرحى وأنات الأمهات والزوجات الثكالى والأطفال اليتامي.
وأنا أطيل التأمل إلى نشرة أخبار الحادية عشرة مساءهالني ما رأيت من صور أطفال ونساء وشباب اختلطت دماؤهم في الوحل واحترق ما تبقى من أجسادهم بفعل انفجارات “إرهابية” ..ساعتها تملكني إحساس غريب كمن يغرق في أنهار من الدموع وبحور من الوجع ومرافئ بلا نهاية ..وشواطئ بلا رواد حدثت نفسي ..ما الفائدة من الكتابة¿!.القيت بالورق والقلم جانبا وأنا ألعن الحرب ..وأبو الإرهاب . ومشعلي الفتن.. وصناع الأزمات .
لكن المخربين لم يتركوا لي الاستطراد..حين امتدت يداهم لقطع الكهرباء فغرقت في الظلام. فأشعلت شمعة نحيفة وأنا أحدث نفسي “ أن تشعل شمعة خيرا من أن تلعن …” لم أكمل المقولة الشهيرة حتى شعرت بيد صغيرة تربت على كتفي بهدوء التفت لأرى من هذا الزائر في هذه الساعة فإذا بي في حضرة خيال طفل وطفلة في غاية الجمال قلت لهما : ماذا جاء بكما في هذا الليل الفاجع الحالك السواد.
قالت الطفلة ودمعة حارقة تلمع في مقلتيها الجميلتين:اسمع عمو:أنا رؤى..وهذا أحمد..جئنا لنؤنس وحشتك ونسهر معك ولنخرجك من حيرتك عما تكتب..تعرف نحن الأطفال لا نتقن لغة الصحافيين ..فلجأنا اليك لنطلب منك أن تكتب عن مذبحة الطفولة في رداع الجميلة (16ديسمبر)..وعن دوامة الحزن التي تلف ديارنا هذه الأيام .. قل لمن يقتلنا وينشر الموت في مدننا ويحرق بالنار دفاتر أحلامنا وأنشودة ولادتنا وكتب مستقبلنا وبراءتنا..كيف له ان ينظر لأولاده وأهله ويده ملطخة بدماء الموت الأسود بعد ارتكاب كل مجزرة أو عملية اغتيال لأبناء اليمن بكواتم الصوتوالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة .ا˜تب حول ما تفعله القوي الشريرة بنا وهي تذبح الوطن ˜ي تؤخر بزوغ فجر اليمن الجديدوشروق شمس العدالة والمساواة وهطول أمطار الحرية وال˜رامة.
ويكمل أحمد ما بدأته رؤى. وعلى شفتيه ترتسم نصف ابتسامة بمرارة الحنظل وحشرجة بلون الموت تموج في أعماقه فيقول: بالله عليك يا عمو عيد نشر رسالة الشهيدة (حورية) المنقوشة بحبر دم (16طفلة) من تلميذات مدرسة الخنساء بمدينة رداع – بينهن ثلاث شقيقات – وعيونهن تغفو في تراب وطن سرقوه منا قبل أن نذوق طعم السعادة والأمان والحياة.
غادرت رؤى مع أحمد كما العصافير بعد أن ألقيا أمامي كومة من الهموم المشتعلة لرحلة ملغومة عبر نفق الحياة المظلم ..ونحن نبحث في نهاية عام وبداية آخر عن بصيص ضوء في نهايته..شعرت بـ “ أطياف” طالبات الخنساء ترفرف في أجواء الغرفة ..
وهنا تحضرني رسالة (حورية ) ووصفها “ لقبلات الوداع من رداع “في صورة بلاغية تجسد” قمة التراجيديا اليمنية”..فكل جملة منها تصلح لتكون ما نشتات ضخمة في صدر الصحف السيارة وأعيد رسالة الحورية كما وصلتني في (الواتس آب) يوم 18ديسمبر.
“ والدي العزيز والدتي العزيزة
اعذروني فأنا لم أستطع تنفيذ وعدي لكم بأن أحافظ على نظافة حذائي الجديد وأتركه نظيفا فقد اغتسل بدمي ودماء زميلاتي دون أن نشعر بما حدث وما الذي يحدث .
أعرف أنكم ستسامحونني هذه المرة لأنها ستكون الأخيرة التي أطلب منكم فيها شيئا ..لأنني سأكون في السماء حيث لا إرهاب ..ولا تفجيرات.. ولا أشلاء..ولا موت ينتظرنا .
كل صديقاتي الطالبات بجواري ونحن نراكم وأنتم تبحثون عن بقايا اشلائنا وتنتحبون بكاء وحسرة.
ونعلم أن كل من سيشاهد أشلاءنا سيرى فينا ابنته وسيشعر بما يشعر به أبي وأمي من حسرة وألم على رحيلنا المفجع …
لهذا السبب أردت أن أكتب رسالتي هذه.
حتى لا يحدث لأبنائهم ما حدث لنا ….
ارفضوا الإرهاب وحاربوه حتى لا تجدوا أنفسكم كما هو حال أبي وأمي اليوم ..
أبي …. أمي
دموعكم غالية ..ودماؤنا غالية ..والوطن غال ….
ولكن هذا قدري أن أموت شهيدة .. وأصبح حورية …
أبي … أمي
بلغوا سلامي لأختي الصغيرة ..وقولوا لها بأنني لن أ