الــرؤيا بعــــين القــــــلب
علي الفهد

جد المتتبع للخطاب الشعري اليمني من خلال إصدارات الشعراء في السنوات القليلة الأخيرة – أن ثمة تحولات ملفتة في أساليب الكتابة على مستويات النص المختلفة من تركيب وتصوير ولغة وإيقاع وغيرها وهذه التحولات الشعرية لا يمكن فصلها عن حركة الشعر العربي الحديث ولا عن حركة المجتمع وتحولاته .
وتبرز ملامح التحولات في الشكل الشعري النثري (قصيدة النثر ) أكثر من غيره من الأشكال الشعرية الأخرى لما يسمح به هذا الشكل من التحرر من القيود الإيقاعية الجاهزة ومن الهيمنات الأبوية والتي يصعب الانفلات من آسارها خاصة أن كثيرا من الأشكال الشعرية محملة بأساليب شعراء رواد ليس من السهل تجاوزها أو تجنب الوقوع في مزالق التكرار والتبعية لها .
الشاعرة إبتسام المتوكل استطاعت أن تواءم بين عملها الأكاديمي وإنتاجاتها الشعرية فلم يتوقف نتاجها الشعري كما هو شأن كثير من مجائليها من الشعراء والشواعر الذين أخذتهم الحياة العلمية وحيواتهم الأخرى عن الشعر وعوالمه بل ظلت الشاعرة المتوكل قريبة من الشعر ترى الحياة من خلاله وتستشرف القادم به وتقرأ ذاتها وعوالمها بعين الشعر .
ومن يقرأ أعمال الدكتورة( ابتسام المتوكل) الشعرية يرى كم كانت حريصة على منجزاتها الإبداعية من الوقوع في التكرار والاستنساخ فالتوقيت الزمني بين المجموعات الشعرية يظهر من تواريخ نشرها أن الشاعرة تترك بين المجموعة والأخرى وقتا كافيا للتأمل والاكتشاف من ناحية ومن ناحية أخرى للانقطاع والتخلص قدر الإمكان مما قد يسبب في تكرار الأساليب بين المجموعات الشعرية وهذا ما يؤكده التنوع الفني والإضافة المستمرة في المجموعات الشعرية المتوالية بدءا من مجموعة( شذى الجمر 1998)م ثم مجموعة يشبه موتها 2002م ثم مجموعة (فلأكن صديقة العائلة) 2004م, وانتهاء بمجموعتها الشعرية التي بين أيدينا (أرى عماي) والصادر عن دار طوى 2013م.
وقد جاءت المجموعة متشربة لأحدث أساليب الكتابة الشعرية في قصيدة النثر والتي تحتفظ بعناصر المفاجأة والإدهاش و الابتكاركما تعبر عن حساسية مرحلة شعرية جديدة مازالت تتشكل على المستوى العربي والمحلي هذه الحساسية بحاجة إلى تلمسها بنفس الآلية التي أنتجتها وهي في تقديرنا حساسية نابعة عن رؤيا شعرية تسبق المنطق وحساباته وتناوش البعيد والغامض في محاولة للتنبؤ بملامحه وهيئاته.
ولعل الشعر أكثر الأنشطة الإبداعية صدورا عن الرؤيا فكثير من التعريفات التي حاولت تفسير الشعر ومصدره وجدت في الاستبصار والرؤيا علامة مايزة له خاصة عند التفريق بين خطاب الشعر ضمن الخطابات الشعرية من جهة وبين الشعر في إطار الشعرية والخطابات الأخرى من جهة ثانية.
ولطالما ذهبت أمم كثيرة إلى رد مصدر الشعر إلى قوى غيبية (ميتا فيزيقية) ربة الوحي والإلهام كما ذهب اليونان وإلى شيطان الشعر عند العرب
وأيا كانت المذاهب والرؤى إلا أنها تؤكد على إعلاء الشعر وإمازته عن الكلام العادي والمألوف وذلك لما يكتنف الخطاب الشعري من غموض دفع بالمتلقين لخطابه عبر العصور إلى تفسير مصدرهö وفقا لأنساق التفكير التي يخضعون لها ففي عصور الأسطورة كانت القوى الغيبية هي المصدر وهذا لم يكن إعفاء للنفس من التفكير بقدر ما كان تمييزا للشعر وفق إمكانات التفكير في تلك الحقبة من التاريخ وفي عصور العلم أكدت كثير من النظريات على أهمية الحدوس والرؤيا والاستبصار في إنتاج اللغة الشعرية بل إن كل شعر جديد نابع عن رؤيا و أدونيس يعرف الشعر الجديد ” أنه رؤيا والرؤيا بطبيعتها قفز خارج المفهومات السائدة .هي إذا تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها.
العتبة الرئيسية أرى عماي:
منذ أن جمعöت العربية في الكتب والقواميس و سعى علمائها الأوائل إلى تنظيم علومها في حقول وتفريعات – وفعل( أرى) يمثل إشكالا كبيرا عند علماء النحو والدلالة والتأويل وهذا الإشكال نابع من تنوع استعمال الفعل أرى وثراء دلالاته ومن الأثر المترتب على تأويله في أحكام الفقه و في التفسير والنحو ولعل العلماء أدركوا هذه الإشكالات وحاولوا ضبطها فتفرعت إلى حقول وتشعبت لأنهم حينها كانوا يخضعون لنسق يتغيأ الظبط الدقيق والمثالي الطامح إلى الكمال لكنهم ربما لم يدركوا أن هذا الفعل يعبر عن ذات وعن جهاز رؤيا خاص منحه الله للإنسان فلكل فرد من البشر أن يرى الكون بطريقته الخاصة ويعيد تسمية الأشياء والموجودات وهذه المنحة الإلهية للبشر المتمثلة بالقدرة على منح التسمية للأشياء (أو جهاز الرؤيا)- خصها الله للكائن البشري عامة وللشعراء من البشر على وجه الخصوص.
لم يغرينا عنوان المجموعة الشعرية (أرى عماي ) بمقاربة المجموعة بمفاتيح الرؤيا فقط كون النصوص الشعرية بتركيبها ودلا