من الملامح الفنية في رواية “صنعائي”

رياض حمادي

 - تبدأ "صنعائي" بسرد الفنانة التشكيلية, مستخدمة ضمير المتكلم دون أن تفصح عن اسمها, فتصف لنا موت أبيها وجهلها أسباب هجرته إلى القاهرة ثم إعادته إلى ص

تبدأ “صنعائي” بسرد الفنانة التشكيلية, مستخدمة ضمير المتكلم دون أن تفصح عن اسمها, فتصف لنا موت أبيها وجهلها أسباب هجرته إلى القاهرة ثم إعادته إلى صنعاء ميتا بعد ثلاثين عاما لتنفيذ وصيته ليقبر في مقبرة “خزيمة”. ثم تنتقل لوصف عشقها لصنعاء القديمة, ثم بداية عشقها لحميد. وفي القسم الثاني يستهل “حميد” السرد بنفس وتيرة العشق للمدينة فيدخل في منافسة سردية مع “صبحية”. حميد هو الذي يعرفنا على “صبحية” ومعهما تتحول صنعاء القديمة إلى امرأة تهبط في ثياب الندى فتصير أسطورة.
في عشق الجنسين, الذكر والأنثى, للمكان دلالة على حيادية المكان والجمال وقدرتهما على لفت الأنظار دون أن يكون للنوع دور في تقدير الجمال حين يكون للروح لا للعين الدور الأكبر. وفي ذلك إشارة إلى المضمون الإنساني الذي يوحدنا جميعا. كما أن السرد من منظور الأنثى والرجل يجعلنا ننسى ذلك الجدل القائم بين الكتابة النسوية والذكورية خصوصا عندما تنجح الكاتبة في إقناعنا على تقمص هوية الراوي ذكرا أو أنثى.
بساطة السرد وتلقائيته الخالي من التكلف, هو ما يميز أعمال نادية الكوكباني منذ قصصها الأولى. في روايتيها “حب ليس إلا” و “عقيلات”, قد تقفز فوق بعض المفردات, وربما تتجاوز بعض الفقرات, لكنك في “صنعائي” ستلاحظ تطور السرد وتلقائيته, لتجعلك تتمسك بتلابيب المفردات والعبارات وتشدد على إيقاعاتها ومضامينها حتى نهايتها المفتوحة, التي تعدك بلقاء آخر في مدينة لا تجرؤ على إغلاق أبوابها.
العتبات في بداية كل قسم من أقسام الرواية هي حكايات قصيرة تستهل بها كل قسم وتربطها بالمتن. من هذه القصص: القصة الدائرية للأم مع ابنتها التي تصير أما (ص 77), وقصة “المقهوية” (ص 105), وقصة عشق راغب التركي للصنعانية (ص 145), وقصة قدسية الجامع الكبير (ص 157), ثم قصة “البدات” السحرية كنموذج لمزج الواقعية بالقصص السحرية والأسطورية (ص 239). وغيرها من القصص الحياتية التي توزعت في ثنايا الرواية والتي تصور ملامح المدينة وحياة سكانها.
ملمح فني آخر, تتجلى من خلاله أصالة الفنان ووظيفته في آن, هو أرجحة الحدث أو التهويم به بين الحلم والواقع, وقلب الحقيقة إلى وهم أو العكس, نجده في عدة أمثلة منها هذه الفقرات:
يقول “حميد”:
“اختارت “صبحية” الهرب على أن نستكمل حلم اللقاء. تأكد لي أن الرغبة بلا حدود هي “حوريتي مسك”, وكل حدود الرغبة هي “صبحية”. في النهاية “صبحية” ليست “حوريتي مسك”, و “حوريتي مسك” ليست صبحية.”
ما يزيد في جماليات العبارة التي استهلت بها الفقرة والتلميح إلى أن اللقاء في الواقع كان وهما أو حلما, هو “حلم اللقاء” المشترك بين “حميد” و “صبحية” في الفعل “نستكمل”. هذه الفقرة التي توهم بحلم اللقاء أو باللقاء الحلم, تشير إلى نوع العلاقة التي ربطت “حميد” بكل من “حورية” و “صبحية”. علاقته بالأولى كانت جسدية, وعلاقته بالثانية روحية لم تتطور لتصير جسدية, لذلك كان من الضروري وضع حدود لهذه العلاقة كي لا تنتهي إلى ما انتهت إليه الأولى, على اعتبار أن “صبحية” هي صنعاء وصنعاء هي صبحية, مثلما أن “حميد” كذلك, والروح هو ما ربطهما بالمدينة أكثر من ارتباطهما الجسدي.
وتقول “صبحية”:
“رائحة خفيفة عبقة من عطر “حميد” العبق أهدتني إياها نسمة هواء رائقة سرت في أوصالي نشوة خجلة جعلت سؤالي يتكرر : هل هذه لحظات حلم أم حقيقة¿!”
بالرغم من وجود شواهد مادية على وقوع الحدث, وهو هنا رائحة العطر التي تخاطب الحواس مما يجعلها أكثر يقينا وإثباتا لوقوع الحدث, إلا أن صبحية بالرغم من ذلك توحي بأنها لا تصدق لقاءها بحميد. وكأن اللقاء بين حميد وصبحية لم يكن واقعا بل حلم. هذا النوع من التساؤل القريب إلى الانكار لا يكون إلا عند لقاء الأرواح لا الأجساد!
المناجاة التي يوجهها “حميد” لروح “صبحية”, يزيد من احتمال “حلم اللقاء”. يقول “حميد” : “ما سأقوله ولو في الغياب ! … اسمعي ولو في الغياب !… بي رغبة عارمة بالحديث لك ومناجاتك في خيالي أكثر من أي وقت مضى … لو قبلتö دعوتي صبحية, كنت سأحكي لك بل سأعترف لك بقصة ستدهشك …” ثم يبدأ بسرد ماض لم تعشه “صبحية”. مناجاة بين حاضر وماض ! ربما لذلك كان اللقاء حلما لم يكتمل ! وبهذا الحلم تناجينا الرواية رغبة في تحقيق لقائنا بماض جميل لم نعشه لكن يمكن استعادته لو !
أختم هذه النقطة ببعض الصور الشعرية في الرواية, والتي أنتقي منها ما يلي:
“شرب ملامح وجهه”, “تقطيع مشاعري وآمالي”, “دحرج لي ابتسامة”, “الحزن المعجون بشوق لم يزل من قلبها يوما أو حتى تخبو ناره”

قد يعجبك ايضا