تطورات مفهوم الحضارة
خليل المعلمي
خليل المعلمي –
على الرغم من كثرة المؤتمرات والندوات التي تنظم حول “حوار الحضارات” وما يقدم فيها من أوراق عمل لا تعد ولا تحصى فكل ذلك لم يقدم معنى واضحا لمفهوم الحضارة.
وفي ظل الصراعات المتنامية بين الأمم عبر التاريخ وحتى وقتنا الحالي وظهور مصطلح “صراع الحضارات” الذي أدى إلى تعصب فكري وصراعات ثقافية يظهر أمامنا كتاب “الحضارة ومضامينها” الصادر عن عالم المعرفة للكاتب “بروس مازليش” وقام بترجمته الدكتور عبدالنور خراقي يهدف من خلاله إلى درء الخلافات الموجودة بين أفراد العالم باحترام خصوصية كل حضارة إنسانية وعدم المساس بقدراتها الثقافية والاجتماعية والدينية وفصول الكتاب السبعة تقدم للقارئ تبصرات مهمة تستفز فكره المتتبع للفكر العالمي.
وفي الوقت الراهن الذي يتفق فيه الدارسون حول فكرة أن مفهوم “الحضارة” مثله مثل المفاهيم الأخرى المتصلة به كالأمة والثقافة والكونية فإن “مازليش” يدعونا إلى إعادة التفكير في التطورات التي لحقت مفهوم الحضارة عبر التاريخ من جراء الاختلافات الأيديولوجية والاجتماعية التاريخية ليؤكد بجرأة لافتة للنظر على ضرورة سحب كلمة “حضارة” من السؤال العلمي ولكنه لا ينفي استعمالها جملة وتفصيلا في المادة العلمية يرمي الكاتب من خلال هذه الخطوة إلى أن يبدل به أدوات تصورية تساهم في فهم حقيقة الطبيعة البشرية الكونية ومتغيراتها الإقليمية المحلية.
يتناول المؤلف في الفصل الأول (أصول مفهوم الحضارة وأهميته) موضوع كتابه معتمدا مفكرة تاريخية تجول بنا في أصل مفهوم الحضارة وتطوره فبدأ بتجسيد الفرق الموجود بين المتحضر (أي حياة المدنية) والهمجي وطرأ على هذا التقابل الثنائي تحول كبير ساهم فيه مفكرو عصر الأنوار الأوروبيون خلال القرن الثامن عشر لتعميم قيم المركزية الأوروبية خلال مطلع عصر العولمة الحديث.
وفي الفصل الثاني (الحضارة باعتبارها أيديولوجية استعمارية) يوضح “مازليش” كيف تحول الشعور الأوروبي في مطلع القرن الثامن عشر من مجرد الاعتزاز بحضارته وفضائلها على البشرية على خطابات تتسم بالشدة والغطرسة تأكد التفوق الأوروبي ويوازي هذا التحول الأوروبي انتقال من أيديولوجية استعمارية معتدلة إلى حقبة استعمارية أكثر همجية ووحشية.
وأما الفصل الثالث (الحضارة باعتبارها أيديولوجية أوروبية) فيقدم حقائق تاريخية فكرية مهمة عن حالات التوتر التي شهدها القرن التاسع عشر بين تعريف شامل للحضارة الأوروبية وتعريفات تقوم على العنصرية والإقصاء ذات الأثر البالغ في السلوك الغربي.
ومن خلال اطلاع المؤلف على كتابات العديد من أبرز الكتاب الأوروبيين ممن لهم تأثير فكري شامل يتوصل إلى الخلفيات التي أدت إلى ميلاد موضوعات حضارية أوروبية رئيسة من قبيل القيم الخلقية والعرق والدين والمناخ والنشوء ولو أن الاقتناع الشامل المتعلق بفكرة الحضارة كان يتضمن إمكان أن يصبح الأفراد (أي الآخر مثل العرب والآسيويين) أعضاء في الحضارة الأوروبية أو أن يتبنوها وأن يصبحوا فاعلين داخلها.
كما يناقش المؤلف في الفصل الرابع (العملية التحضرية) الثقافة الأوروبية من خلال مفكرين كبار مثل “فرويد” و”نوربيرت إلياس” اللذين شكلا أفكارا جريئة وصريحة عن الجوانب السلبية للحضارة الأوروبية محاولين الابتعاد عن الاتجاه الانتصاري الكلاسيكي الذي لا ينقطع عن تمجيدها ومن منظور تاريخي شامل يواصل الكاتب مناقشته أفكارا أخرى لمجموعة من النقاد والرومانسيين الأوروبيين خاصة أولئك الذين لهم ميول نحو الثقافة الآسيوية ولهم رسالة تدعو إلى النهضة الشرقية.
ويتناول المؤلف في الفصل الخامس (حضارات أخرى) نظرة المصريين والصينيين وغيرهم لمفهوم الحضارة دون أن ينسى التطرق إلى التحول الهائل الذي لحق بخطاب الحضارة من كونه أيديولوجية الاستعمار الهمجي إلى كونه أداة فكرية للقومية المناهضة للاستعمار تعتمد خطاب الشرق الروحي والقيمي مسلكا لها في مقابل خطاب الغرب المادي المنهار.
ويضم الفصل السادس (حوار الحضارات في عصر العولمة) والفصل السابع (استنتاجات) ملاحظات جديرة بالذكر عن المحاولات التي حصلت أخيرا حول الحوار بين الحضارات بدعم من اليونسكو ويوضح الكاتب كيف أن الصراعات الراهنة تمتد إلى داخل الحضارات وليس بين الحضارات المختلفة حيث لا يستبعد “مازليش” إمكان التوصل إلى حوار حضاري بناء على الرغم من أن المغزى الحميد والمثالي لـ”حوار الحضارات” يقوم على مفهوم عتيق ومهجور للحضارة فهو يشدد على أن تتوافق جهود هذا الحوار مع حقيقة مفادها أن هناك الآن حضارة كونية واحدة تساعد في حد ذاتها على تأسيس أرضية إيجابية للحوار ولا تقف عائقا في وجهه.
وقد اعتبر المترجم هذا الكتاب مساهمة إضافية في مجال البحث العلمي الذي يهتم بدراسة مفهوم الحضارة دراسة متأنية ورصينة بعيدة عن العنصرية والتقوقع حول الذات وقد كتب بأسلوب متعدد التخصصات تاريخي وفلسفي وعلمي وأدبي