السرعة

محمد المساح


يذكر ميلان كونديرا في بداية روايته “البطء”: ليس بمقدور الإنسان المنحنى فوق دراجته النارية سوى التركيز على لحظة انطلاقه فهو متشبث بجزء من الزمن.. مقطوع عن الماضي والمستقبل مفصول عن استمرار الزمن إنه خارج الزمن.. ويقول آخر ربما كان في حالة انجذاب إذ لا يعي المرء في تلك الحالة شيئا عن عمره أو امرأته أو أطفاله أو همومه وبالتالي فهو لا يشعر بالخوف لأن منبع الخوف يكمن في المستقبل ومن تحرر من المستقبل لا يخشى شيئا السرعة حالة انجذاب قدمتها الثورة التقنية كهدية للإنسان وخلافا لراكب الدراجة النارية نجد ممارس رياضة الجري حاضرا دائما في جسده ومجبرا على التفكير باستمرار في مشاكله الجسدية والنفسية.
وعندما يجري يشعر بثقل جسده وعمره ويكون متيقظا لذاته ولزمن حياته.. كل شيء يتغير عندما يعهد الإنسان بملكه السرعة إلى الآلة: إذ يصبح جسده حينئذ متفرغا لسرعة لا مادية مجردة صرفة سرعة بذاتها سرعة انجذاب.. تحالف غريب: الحيادية الباردة للتقنية والنار المدمرة للانجذاب.. ويتساءل كونديرا: لم اختفت متعة البطء¿ أين هم متسكعو الزمن الغابر¿ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمه¿
يذكر كونديرا: المعادلة المعروفة من موجز الرياضيات الوجودية تتناسب درجة السرعة طردا مع كثافة النسيان ومن خلال تلك المعادلة نستطيع أن نستنبط عدة نتائج طبيعية مثل هذه: عصرنا منقاد لشيطان السرعة ولهذا السبب ينسى نفسه بسرعة أفضل قلب هذا الاستنتاج فأقول: عصرنا مهووس برغبة النسيان والإرضاء تلك الرغبة يؤخذ بشيطان السرعة فهو يسرع الخطى لأنه يريد أن يفهمنا أنه لا يتمنى أن يذكره أحد وأنه تعب من نفسه محبط من ذاته ويريد إطفاء الشعلة الصغيرة المرتعشة في ذاكرته.
وهكذا تتحول الأحداث في هذا العصر إلى جزء صغير من ركام أحداث يكتنفها الغموض مرت في هذا العالم سريعا بحيث لا يمكن تبيان ملامحها فعندما تمضي الأمور سريعا جدا لن يتأكد أحد من شيء حتى من نفسه.
يختم كونديرا نهاية روايته بوصف الحالة النفسية لأحد أبطاله: يشعر في تلك اللحظة بظمأ للسرعة لا يرتوي يخطو خطوة ثابتة يتقدم مسرعا نحو دراجته النارية.. تكتسحه الرغبة الآن بتلك الدراجة ويحبها كثيرا لدرجة أن سينسى كل شيء حتى نفسه فوقها.

قد يعجبك ايضا