وراء البريـــــق ..
فـارس البيل

« عز القبيلي بلاده.. ولو تجرع وباها» الحكيم الشعبي/علي ولد زايد*
تلهو الريح الناعمة على أطراف الحقول.. الحقول الملبدة باخضرار زاه ..عند بطنها ينث النبع بسخاء.. حيث تتجمع نسوة بثيابهن الغليظة المرقشة بذات الزهور والمكعبات, وأوان عتيدة يحملنها مملوءة عن آخرها على رؤوسهن ولا يفقدن قطرة منها طوال الطريق الصاعد والمتعرج إلى الديار رغم مشاكسات الكلاب وتقاطعات الأشجار.. يحلو للطير في هذا الصفاء أن يمارس عشقه الأزلي بجوار الإنسان الفقير من كل شيء سوى الرضا والضحكة النقية.. في القرية المعلقة بين جبال عديدة.. تخلو البيوت من الرجال والنساء منذ أن تفرك الشمس قمم الروابي.. جميعهم يتجهون إلى الحقول الصغيرة.. بالكاد تمنحهم حصة غذاء لأيامهم الهادئة توائم بين الجوع والشبع. في المساء يلتقي رجال القرية عند أبي صالح في مجلسه الواسع بفراشه المهترئ, يقولون ذات الحديث كل يوم ويسألون بعضهم عن أحوال بعض وهم في مرأى بعضهم كل حين.. النساء يقضين مساءهن بالعناية بالمواشي والأبقار وإطعامها.. وما إن تنفض صلاة العشاء حتى يعود الجميع من مسجد القرية الوحيد إلى بيوتهم لتناول عشاء جاف معتاد, ثم يغطون في نوم عميق لا يزلزله سوى صياح الديكة من قبل الفجر.. لتبدأ عجلة الحركة في القرية بالدوران النشط الذي لا ينتج شيئا سوى الزمن! يفارق مجلس أبي صالح كثيرا بعض شبان القرية الذين نشأوا على أخبار التطور والتقانة والتقدم الصناعي الذي يغزو العالم ولا يقترب بتاتا من هذه القرية في حين أنها لا تبعد عن أقرب مدينة صغيرة سوى بضعة كيلومترات. واحدهم (فالح) الذي لا يكف عن إبداء تذمره من حياة القرية وقساوة عيشها رغم رطوبة الجو الدائم فيها .. يظل يتابع أخبار من رحلوا من قريته أو القرى المجاورة ويتتبع سöيرهم وما حققوه في مرتحلهم, ورغم ما تصله من أخبار متناقضة إلا أنه يحلم باليوم الذي يكون فيه واقفا على الصخرة الملساء عند مدخل القرية وهو يلقي نظرته الأخيرة على منازلها مودعا . سمع فالح عن عودة رجل من غربته في قرية مجاورة, قرر ألا يهطل المغيب إلا وهو في مجلسه ليرشده إلى طريق الاغتراب. كان العائد ما يزال فرحا بأهله ولم يشأ أن يكر عليه أحد أوجاع الغربة التي تخلص منها للتو, أصر فالح على أن يأخذ من العائد أية معلومات يمكن أن تساعده على الرحيل, بامتعاض رد العائد على فالح بأبيات علي ولد زايد: “ إن كنت هارب من الموت ماحد من الموت ناجي ..وان كنت هارب من الفقر أهرب سحول ابن ناجي». لم يعر فالح هذا القول انتباها وظلت عيناه تجولان في القميص الفاره للعائد بأزراره الثمينة, والسيجارة الفاخرة التي يمجها بغبطه. كان صوت المسجل المرتفع يدوي بأرجاء السيارة المسرعة باتجاه المطار, يصدح منه غناء أبوبكر سالم بلفقيه “يا مروح بلادك ….عادنا الا انطربنا والتلاحين طابت”, فيما كان فالح يطاول نافذة السيارة محدقا في الأفق الغائم. تنقل فالح بين كثير من الأعمال الشاقة والمهن المختلفة في الدولة الغنية, ومارس الكثير من الغوايات, لم يكن يقف على شيء من المال الذي يتقاضاه بعد جهد إلا وبدده في مصروفات الحياة الضرورية في مغتربه. تعرف إلى الحياة الجديدة هنا والتطور الناهض بخفة, لكن حياته الشخصية لم تكن أحسن حالا من مستوى معيشته في قريته.. السكن الذي يرتاده مع مجموعة كبيرة من العمال من بلده وبلدان أخرى أشبه بسجن قديم مفتوح.. والأعمال التي يقوم بها تأخذ نهاره كله ولا يعود مساء إلا جثة هامدة.. مرت أربع سنوات منذ قدوم فالح إلى بلد الغربة وهو على هذه الحال, انقطع خلالها عن أخبار قريته وأهلها باستثناء الشهور الأولى حين كان يرخي سمعه للأخبار المهمة القادمة من هناك مثل الموت والزواج فقط.. حتى تناسى كل شيء فيها, وبات يدغم كلامه بلهجة هذا البلد, ويحاول أن يتأنق بزي أهلها دون إجادة واضحة.
دون توقيعه بمهارة في قلب “شيك” لامع.. ودفع به لأحدهم نظير صفقة تجارية كبيرة عقدت للتو بينهما.. عليه الآن أن يركب سيارته الفارهة بسرعة باتجاه أحد الفنادق الفخمة بالمدينة ليلتحق بمجموعة من رجال الأعمال في حفل عشاء فاخر بمناسبة عودة أحدهم من رحلة الحج السنوية المعتادة.. مرت تسع سنوات على افتتاح هذا الفندق الفخم.. في الأشهر الأخيرة قبل الافتتاح كان فالح يعمل في طلاء واجهته الخارجية, وهو الآن يملك أسهما فيه, والعشاء الليلة مقام على نفقته. تقلب فالح في العوز والنعيم, وتنقل من حال لحال.. هو الآن تاجر مغامر, وقته مشحون وأنفاسه متلاحقة, يشعر في قرارة نفسه بالارتياح لما حققه من ثراء رغم كل الصعوبات والخسائر التي تعاورته, إلا أنه لا يشعر بها, سوى خسارة واحدة لا يعلم كنهها تظل تومض في نفسه. لم يكن فالح على علم بتغيرات قريته على مستوى الناس, فالبعض منهم وافته المنية أو غادر أو انقطعت أخباره, وبعضهم ما يزال على هيئته في مجلس أبي صالح يلوك ذات الحديث. ر