الريـف يـروي ســــــيرة المدينــــة

محمد الغربي عمران


محمد الغربي عمران –

تمدن المدائن هو تمصر الامصار..لأن المدينة حصن يبنى في أصطمة الأرض”لسان العرب”وكل أرض يبنى في أصطمتها فهي مدينة ومصر(1)ويرجع أصل كلمة مدينة في اللغة العربية إلى (مدن),ومدن بالمكان أي أقام به.كما أورد الفيروز آبادي وابن منظور أن المدينة تعني الحصن, أما الزبيدي فيرجع أصل المدينة إلى كلمة (دين) لأنها تتضمن معنى التملك,وأصل الكلمة كما ورد في معاجم اللغة عربي وليس آراميا أو عبريا (2) والمتفق عليه لدى المختصين حول تاريخ التمدن البشري أن أول التجمعات البشرية التي عثر عليها الآثاريون تقع يقينا في منطقة المشرق العربي, وعلى وجه الخصوص في حوض الفرات الأدنى ,ثم الأوسط. بدءا من أواسط الالف الرابع قبل الميلاد. وبعد وقت ظهرت بوادي النيل (مصر) سمات واضحة لحياة المدن, ثم بعد عدة قرون تجلت مدن في الهند(3)
وقد حظيت المدينة بمساحة واضحة في الرواية العربية وكانت دالة على التحول والتغير المجتمعي بما في ذلك تمظهر مناظيم القيم والأخلاق وتطورها.
وفي ورقتي التي أحاول تقديم مختصر عنها ركزت على الخط الموصل بين المدينة والريف في الرواية العربية.. المدينة اليمنية نموذجا.
فإذا كانت الأعمال الروائية العربية قد أحتفت بمجتمع المدينة كمدينة مختلفة الخصائص عنها في التجمعات الريفية.. فان الرواية في اليمن ظلت تقدم مجتمعا مدينيا يحتفظ بخصائص وقيم الريف .. اذ أن مجتمع مدينة الرواية في اليمن يختلف عن مجتمع رواية المدينة .. ولذلك لن نجد في الرواية اليمنية ما نجده في مجتمع (الخبز الحافي) لمحمد شكري.. من تعقيدات وتداخلات .. أو لدى نجيب محفوظ في :أولاد حارتنا.. خان الخليل .. زقاق المدق ..بين القصرين.. قصر الشوق… أو في (السفينة) لجبرا ابراهيم جبرا او مدن الملح لعبد الرحمن منيف.. و(خاتم) للروائية السعودية رجاء عالم التي تعالج في جل روايتها مجتمع مدينة مكة.. أو في (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي.. والقائمة تطول.
وقد اخترت ثلاث روايات يمنية لورقتي التي أتناول فيها : القيم المدنية في الرواية اليمنية.. وتأثير تلك القيم المتمثلة بمدنية عدن على المدينة اليمنية.
ولأعمال لثلاثة روائيين من اليمن.. تناولت تأثير مدينة عدن في مجتمعات المدن اليمنية الأخرى .. والروايات هي: (المكلا) لصالح باعامر.. و(الرهينة) لزيد مطيع دماج.و(صنعاء مدينة مفتوحة) لمحمد عبد الولي.
عالجت تلك الأعمال علاقة مجتمعات تلك المدن بمجتمع مدينة عدنا وتأثيره.. حيث مثلت عدن المجتمع المدني في تلك الروايات .. في الوقت الذي تستعير مجتمعات تلك المدن وغيرها من المدن اليمنية قيم التمدن من عدن.
ومدينة (المكلا) تقع على سواحل البحر العربي.. والتي اتخذ الكاتب من اسمها اسما لروايته.. وقد عالج الكاتب في رواية انفتاح ذلك المجتمع على غيره من المجتمعات بحكم موقع المدينة على البحر.. وبروز تعايش أعراق مختلفة فيها.. عربية وافريقيا وهندية.. إلا أن القادمين من الجبال والصحراء عادة ما يصبغون مجتمع المدينة بعاداتهم القبلية وما يصاحب ذلك من صراع قاس للسيطرة عليا والتسلط على مجتمعها. مستغلين غياب رجال البحر من سكان المدينة.. الذين يركبونه ليغيبون أشهر طويلة منشغلين بالتجارة ونقل السلع إلى سواحل شرق إفريقيا والهند.. إضافة إلى صيد السمك. وبذلك يتركون المدينة لبدو الجبال والوادي.. كما ترصد الرواية رحيل بعض السكان إلى عدن للعمل هناك .. ليعود كل منهم بعد سنوات محملا بتفاصيل وعادات وقيم مدينة عدن وأسلوب معيشة سكانها.
الشخصيات المحورية (سعيد) يتعامل بحسه الريفي مع الأحداث وحين أنتقل إلى عدن ظل ذلك الغريب في تعامله مع من حوله.. حاملا معه عادات وقيم مدينة لم تتخلص من موروث الريف.. أو الوادي والصحراء..
والرواية الثانية بعنوان (الرهينة) للروائي زيد مطيع دماج.. وتدور أحداثها في مدينة (تعز) الواقعة على سفوح جبل صبر.. وتبعد عن عدن مئة وعشرين كيلو غربا.. وقد رصدت الرواية أثر مجتمع مدينة عدن على مجتمع تعز.. من خلال تلك الأعداد الكبيرة التي تهاجر إلى عدن لتعود محملة بقيمها .. وتدور أحداث الرواية في العقد الأخير للاستعمار الإنجليزي لعدن التي تحولت فيما بعد إلى عاصمة لجنوب اليمن.. واغتراب معظم سكان تعز في عدن حولهم إلى جسر لنقل قيم مدنية وأسلوب حياة جديدة تؤثر على بناء مجتمع تعز الذي تسيطر عليه الأفكار الرعوية والعادات القبلية والعشائرية .. وبذلك حمل أولئك المهاجرون قيما مدنية وعادات جديدة.. لتتحول تعز إلى النموذج الأمثل بين مدن الشمال حين تقاوم القبيلة وتبشر باندثار نفوذها .
في رهينته زيد مطيع دماج لم يكن مجتمع تعز حاضرا بشكل قوي– وهنا المفارقة- فقد ركز الكاتب في روايته على مجتمع قصر الحاكم الذي كان يتخذ من المدينة مقرا له دون أن يعلن

قد يعجبك ايضا