هل الثورة حتمية!!
سامي عـــطا
” من يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية”.(جون كنيدي)
في معرض رد الفيلسوف البريطاني برنتراند راسل (1872-1970م) على سؤال في مقابلة مع البي بي سي عام 1958م حول سر الوفاق الذي يتمتع به الإنجليز بالمقارنة مع سواهم من الشعوب ولماذا لم تشهد بريطانيا ثورة كتلك التي شهدتها شعوب أخرى مثل فرنسا وروسيا أجاب أن الإنجليز بدأوا يتعلموا سر هذا الوفاق فاختطوا سياسة التسويات بعد أن شهدوا ثورة في القرن السابع عشر عندما حدث خلاف بين مجلس العموم والملك تشارلز الأول , وذلك عندما رفض مجلس العموم طلب للملك بزيادة الضرائب , كما تطور الخلاف إلى أمور أخرى تتعلق بتقليص صلاحيات الملك الأمر الذي أفضى إلى تأسيس الملكية الدستورية لاحقا , ووصل الخلاف بينهما إلى أن تم في نهاية المطاف محاكمة الملك وقطع رأسه في 30 نوفمبر عام 1649م.
ومن ذلك الوقت بدأت بريطانيا والنخبة الارستقراطية تختط طريق التسويات التي جعلتها تتنازل فيه عن امتيازاتها من أجل درء خطر الثورة , ويقول راسل إنه كانت في العام 1831م لحظة ثورية بامتياز لولا جده جون راسل الذي كان رئيسا للوزراء حينها قدم تنازلات بموجبها تنازلت الطبقة الارستقراطية عن بعض من امتيازاتها, لذا فإنه حافظ على رأسه فوق كتفه وعلى السلالة من بعده, بينما في فرنسا وضعت الأوضاع المتأزمة الملك لويس السادس عشر وطبقة النبلاء أمام خيار تقديم التنازلات أو تقطع رؤوسهم, لكنهم أبوا ورفضوا تقديمها , ولسان حالهم لا بل تقطع رؤوسنا فقطعت رؤوسهم. وربما أدركت الارستقراطية الانجليزية مخاطر عدم الإنصات للتغيير والقبول بالتنازل من الثورة الفرنسية .
وهذه العبارة تطرح السؤال التالي: هل طريق الثورة طريق حتمي لا مناص من تلافيه أو أن هناك طرقا أخرى للتغيير يمكن أن تكون ناجعة وتحقق التغيير¿
من هذا نستخلص أن مسألة الثورة من عدمها ليست مسألة ترفيه, أو أن الناس يطلبون الثورة رغبة فيها, أن الأوضاع البائسة هي من تصنع الثورة, في حين أن التغيير ليس بالضرورة أن يمر عبر الثورة , هناك تغييرات تجري عبر الإصلاحات المتأنية والمتدرجة, لكن هذه الأخيرة تحتاج إلى نخبة سياسية تتحلى بالمسؤولية وتفهم مخاطر وتكاليف الثورات الباهظة أي أن الثورة ليست حتمية ولا أميل إلى حتمية الثورة, ويمكن أن تكون هناك أساليب أخرى للتغيير في بعض الحالات, فلكل واقع ظروفه الذي يستدعي هذا الشكل أو ذاك وبالطبع هناك بلاد اختطت طريق الإصلاحات المتدرجة كما حدث في التجربة الانجليزية وتجذر هذا الأسلوب في ثقافة النخب السياسية وصارت من الإجراءات الأصيلة في المجتمع.
وقدمت الثورة الفرنسية درسا بليغا للساسة الانجليز مفاده إن تلافي حدوث الثورة يتطلب تقديم تنازلات, وهذه التنازلات ينبغي أن تكون جوهرية ويستفيد منها المجتمع أو عموم الناس.
وقد يستنتج بعض القراء أن ذهاب الفرقاء السياسيين في هذا البلد إلى التوقيع على المبادرة الخليجية هو أشبه بالطريقة الانجليزية مع أن الأمر هنا مختلف, لأن الطبقة الارستقراطية الانجليزية قدمت تنازلات لعموم الناس وما يجري في هذا البلد هو أن مراكز القوى المتصارعة قدمت تنازلات وحدثت تسويات بينها, ولم تكن تنازلات وتسويات لامست جذر التناقضات الأساسية في المجتمع , وكما لم تساعد الإجراءات المتخذة حتى الآن على حلحلة هذا التناقض, أن ما جرى هو ترحيل لأزمة المجتمع أو هو أشبه بوصفة طبية لمريض سرطان بتعاطي حقنة مورفين.
ولذا فإن المبادرة لم تمهد إلا إلى تنازلات النخب السياسية الحاكمة لبعضها البعض وهذا التنازل لم يلامس الفئة المتضررة التي انتفضت في فبراير 2011م ولا ينبغي أن تفهم المحاصصة القائمة كما لو كانت تنازلا, بقدر ماهي ترضيات شخصية وتأليف قلوب أفراد مرتبطين بالجهات المتصارعة.
ومن التجربة الإنجليزية نستخلص , أن الثورة تكون حتمية في ظل وجود نخبة سياسية مقامرة ومعاندة, ولا تدرك هذه النخبة مخاطر بلوغ تناقضات المجتمع مرحلة الانفجار أو أنها نخبة مستهترة. وأن منع الانفجار يحتاج إلى تقديم تنازلات جوهرية تساعد على تفكيك العبوة البشرية القابلة للانفجار, كما أن النخبة السياسية في هذا البلد إذا أرادت أن تحول دون وقوع الثورة على الطريقتين الفرنسية والروسية , فإنه ينبغي عليها أن تقدم تنازلات على الطريقة الانجليزية, أي تنازلات جوهرية, بغير ذلك فلا مناص من قدوم الثورة.
• أستاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث المساعد
قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عـــــدن