صوت المكان في »الانبهار والدهشة«
صلاح الأصبحي

كثيرة هي التداولات والقراءات التي يقيمها نقاد وقراء, لكن في النهاية تبقى تلابيب الحقيقة تنتظر صوتا يسمعها, أو همسا يتحسس سرها , يبقى هكذا الأبداع مخلدا بحيويته وسيرورته المستديمة .
من أقاصي ذاكرة الاسترجاع,نقيم جسر تواصل مع كلö أجزاء المكان بأفقه وأرضه , ككومة من الشجن , وظلال من المحبة والدهشة, سيبقى لزيد حدثها وزمانها, مهما ساومته السنون , وغيبته السحب, إلا أنه يتعرج بينها كنجم يماني يعانق الحرية والجمهور .
إذا أردت أن تحوم حول حماه, ستلاقيه أو تعيش معه طفولته ,كي تدخل في سرب حكاياته ومغامراته, يأخذك إلى أقصى حنينه وأنينه , يدثر معك صفحات بيضاء من أحلام الطفولةö, وملامحö المستقبل, بصوت شجي, وروح دافئة بالتطلع والحرية .
لكي تكون رفيقا لزيد, خليلا لوعيه وفنه, كنú قادرا على الامتزاج والانسجام, وحذرا من الخروج عن دائرته الإبداعية , فلا تكنú جافا ولا حادا, ولا تسبق بتصورك أحداثه, أو تنفي باعتقادك دلالته , سر معه خطوة بخطوة إلى حيث يريد , حينها سيبصرك بحقائق, ويجعلك تلامس تلابيبها , مدهشا باهرا وجها لوجه , كما لو كان يسلمك أمانة الفن, وجوهر الإبداع .
قد يبدو لحالة التشكل الواعي واللاوعي دفعة في تأسيس منطلق الكتابة عند زيد,كما أن للبيئة أثرها في صنعه, وهي التي تحمل عباءتها, وخلق من عجنتها , روحا متحررة,ووعيا وطنيا خالصا للنضال والتضحية,حيث تكاملت فيه معاناة بيئته وحلمه وثوريته, وسعيه للحرية لتشكل بذلك انتفاضة فنية ,وتظاهرة سردية, تسعى للتحرر من الماضي وترسباته العابقة في حياة الفرد اليمني , صارخا في وجه الظلم والقهر والتخلف بكل قواه , دافعا بالحاضر إلى المستقبل .
تجده ثائرا في كل وسائله وأحداثه الفنية , محاولا بث روح المقاومة لفعل الظلم والقهر , هذا الخيط الممتد في جسد تجربة زيد , جعلها تتصل بطريقة استثنائية بإدراك شعوري وفني مدهش .
استطاع زيد أن يقدم سيرة وجودية وكينونة جمالية, تحث خطاها بتبني قضايا الفرد والمجتمع بممكنات ثورية تحرر الجسد والروح وتستبطن العقل وقدراته الهائلة المهدورة والمغلق عليها بقفل سلطوي قاهر .
يكتب زيد مطيع دماج كما يرى أو كما يتذكر وينقل أحاسيسه ومشاعره بحرفية من يضع في الكلمة كل شيء , فهي الذات وهي المكان ,يحاول أن يكشف أسرار عالمه ,ويفك طلاسمه بروح طفل حذر جريء, كما سنجده في كتاب الانبهار والدهشة .
زيد : صوت المكان فيالانبهار والدهشة !
إذا أرادت أن تصنف زيدا ككل , وكتاب الانبهار والدهشة بشكل خاص , فهذا الأمر فيه شك , ومرد ذلك, أن زيدا كان يكتب دون أن يريد لكتاباته أن تصنف في إطار جنس أو مدرسة أدبية بعينها , وقد تجد هذه السمة غلبت على الرهينةأو كتابه هذا , رغم حضور أدبي متميز , يضعه نموذجا مهما في مسار السرد اليمني والعربي , لكن مع هذا إن حاولنا أن نستضيفه بإدراجه في فئة السيرة الذاتية أو المذكرات أو الاسترجاع , فقد يؤثر على ذلك الاقتصار على مرحلتين زمنيتين من حياته المتمثلة في تعز والقاهرة , يسرد فيها حالتين من الاصطدام الرؤيوي بالمكان, ونقله صورا حقيقية له, أكثر من سرده للوقائع والأحداث التي عاشها فيه , كما أن اقتصار الكتاب على هاتين المرحلتين وإن عدت من أهم المراحل في حياته , فهذا لا ينفي وجود محطات مهمة مختلفة في حياته سواء في الداخل أو الخارج, طالما وأن الرجل تنقل كثيرا , وعاش في أكثر من مكان , حتى نتمكن من مقاربة هذا النوع من الكتابة لفن السيرة الذاتية بصوره المختلفة , كما أن اقتصار الكتاب على فترتين زمنيتين متقاربتين , وتكاد تكون مبكرة في حياته كصباه وشبابه , وقد نفترض أن الغياب قد أخذه عنا قبل أن يكمل لنا سيرته الوجودية وكينونته الحياتية المتسقة مع الزمان والمكان المقصودين .
أولاـ وبحسب عمر منيب, تبدو علاقة الإنسان بالمكان علاقة تأثيرية تسير باتجاهين إذ يسهم المكان في تشكيل وعي الإنسان بوجوده ويطبع فكره وهويته ـ وقبل ذلك كله فيزيولوجيته بطابعه فيما يسهم الإنسان في إضفاء خصائص إنسانيته على المكان بتبديل صفاته وبنيته وأنسنة فضائه وهذه العلاقة التأثيرية المتبادلة تتحول بفعل التعود على مر الزمن إلى علاقة حميمية.
بمعنى آخر , يمكننا القول إن دماج انتقى لسيرته الذاتية هذين الحدثين المكانيين , طالما يكونان مكملين مهمين لسياق نتاجه الأدبي , الذي شق به طريقا نحو الحرية والنضال , وأراد من خلالهما أن يكون الكتاب هذا بمثابة الظلال القريبة لنتاجه الفني , حينما يلصقنا تماما مع حقبة زمنية مهمة من تاريخ اليمن ومصر , وهذه سيرة ذاتية جاءت بشكل مذكرات كما يقول جابر عصفور يغلب فيها التاريخ على الإبداع وذلك بما تقدم من وقائع تاريخية , لكنها هنا مرتبطة بالمكان ,