د.خوجة ورسالة المعرفة
أحمد الشرعبي

لا ريب أن أرزاء متوالية أناخت فوق ساحاتنا وغيوما داكنة سدت الأفق العربي وقضت مضاجع الأفراد والجماعات ملحقة الضرر الفادح بوحدة الشعوب والوهن الفاضح في مكانة الحكومات.
لم تنقشع الغمة عن القلب ولا حط سرب الحمام على القرب من كوخ الآمال المدماة وسط صحراء التجارب المراهقة.
تتعاقب الأزمنة وتتغير رؤى وسياسات وأولويات العالم من حولنا لكننا ما ننفك عروبة (داحس والغبراء) عالقون في محطات الغرباء غارقون داخل (سقيفة بني ساعدة) نعاين مقتنيات التاريخ المتداور على غريزتي الثأر والاجترار.. تتدرج مجتمعات الغرب في بلوغ ذرى التطور وتنتقل من تحدي الصناعة إلى غزو الفضاء ومنهما إلى تصميم الإنسان الآلي في محاكاة الكائن البشري وصولا نحو ثورة الاتصال وعوالم الجينات الوراثية بينما تظل مجتمعاتنا رهن أولويات فكهة تبعث على الأسى وتسحق بقسوة وصلف كلما تبقى في رصيد أجيال الغد من شجن.
الكيانات الصغيرة تلبس قفاز الغرباء لمجرد الرغبة في الارتهان.. جماعات التداين السياسي تخطف اليافعين من مدارسهم لتلحقهم بطابورها الجهادي وتنثر أشلائهم على شعاب الأرض وفقا لبوصلة السي آي إي..
وسط هذا الهزيم المترع بالتحينات المرتدة ظل طيف واسع من القابضين على جمر الإبداع يعاندون العاصفة ويشتغلون على مقاومة الانكسار النفسي لذائقتنا الجمالية.. يتعامدون في صباحاتنا الخجولة وتلوح على مراسمهم الملتاعة لوحة القوس القزحي المجسد وحدة الألوان وتعايشها.. امتزاجها الجماعي الحميم وخصوصياتها الأحادية البهية.
رأيناهم في مختلف المراحل الصعبة يحملون مشاعل الأمل.. وشاهدناهم يطرقون بابا للحرية أو نافذة للضوء.
القصيدة صوت السماء وخميلة الإنسان على ظاهر الأرض.. ومتى خفت بريقها أو انطفأت جذوتها حل اليباب وتهاوت آخر القلاع المحصنة في تلافيف وجداننا العربي.
نحن إذ نخوض حروبنا الضارية ضد التطرف تلزمنا إلياذات فيلسوف المعرفة د.عبدالعزيز المقالح ولوحة هاشم على من اليمن وصوت فيروز من لبنان وأصولية الشيخ محمد الغزالي من مصر وفلكلور دريد لحام من سوريا وسرديات مستغانمي من الجزائر وعناقيد شعر د.عبدالعزيز خوجة من السعودية ذاك أن معركتنا مع الظلام ليست بيانا سياسيا متوعدا بل هي عملية جهاد شاق وطويل يستهدف إعادة الاعتبار لرسالة الاستخلاف وتعظيم دور العقل في استكشاف المجاهيل وارتياد دروب المستقبل..
بيد أن مقطعا شعريا وقفت عليه منشورا في إحدى الصحف اليمنية ألقى ظلاله على تصوراتي الذاتية لمحفزات الحياة بما تستحقه من صخب وتنوع مسارب وتزاحم أضواء ومتواليات عطاء وما نستحقه فيها من مسرات أو نستلهمه من خصب.
لا شك أن الدكتور خوجة كتب قصيدة (لن أعاتب) في ظرف مختلف أحاط تقديراته حجم الحصار المضروب على المعرفة في وطننا العربي ولم يجد بدا من إطلاق النفير الاحتجاجي لا على سبيل إبراء الذمة من مسئوليته كوزير تهمه تحديات التنوير ويقود أهم جبهات المعرفة قريبا من الأصداء السرمدية لأهم وأول توجيه سماوي تلقاه الرسول الخاتم وشهدته شعاب مكة ( اقرأ باسم ربك الذي خلق) ولكن لشجاعة الشاعر في الاستشعار المبكر والإحاطة بما ركمته ظاهرة الإسلام السياسي من إرث ثقيل على الثقافة العربية أولا وعلى ركائزها المؤسسية في المملكة ومحيطها الإقليمي ثانيا..
ظروف مختلفة – لا ريب – دعت الوزير الشاعر أو بالأحرى الشاعر الوزير للتعبير عن خلجاته الواجمة بلغة تتجاوز الاحتجاج إلى التلوي من الألم واستخدام الصعق الشعري في عملية إيقاظ لم تذهب دوافعها النبيلة أدراج الرياح ..
أهذا فعلا إيحاء القصيدة أم أننا أسقطنا على النص تهيؤاتنا الذاتية ..
“أأقول عاتب¿! أأقول غاضب
لا.. لن أقول ولن أعاتب
حتى وإن غدر الهوى
حتى وإن رحلت من الميناء أحلام المراكب
حتى وإن غاب القمر والشمس غابت والكواكب”
يمضي النص في انسيابية مفارقاته صعدا نحو المكاشفة الموجعة.
“حتى ولو عصفت رياح الشوق تأخذني
سأخمدها وأهتف إنني يا قلب تائب
ارحل كما رحلوا
فإني لن أعود..
ولن أعاتب “
جاء هذا المقطع مسبوقا بآخر عنوانه (الهوى طليق) شف عن جوهر الصراع مع أعداء الحرية والحياة
“ويلهم.. قيدوني
كبلوني بالشجون
عذبوني بالظنون
شتتوا شمل وجودي * أرهبوني بالوعيد
بالحكايات القديمة * بالخرافات السقيمة * حولوا حبي مأساة أليمة “
والآن.. وفسحة الأمل تنزع بالقلوب إلى الخفقان ومراكب الأشواق تعاود إبحارها.. هل تشرع المؤسسات الثقافية باجتراح رؤيتها المعاصرة إزاء مهام الحاضر وتحديات المستقبل¿ وهل حان لهذه القطوف الشعرية الممتلئة بالمجسمات المتخيلة أن تشعل ثقاب المعرفة وترمم عطب الوجدان العربي المسلم¿
لم اجتهد كثيرا في قراء