من غير ليه… الأغنية التي لا تنتهي
أحمد العرامي
هي أغنية فلسفية وهي أغنية للحب وهي أغنية تفلسف الحب كلماتها ويفلسف لحنها الكلمات ويحلق بها في فضاءات مجنحة. تلك هي من غير ليه الأغنية العبقرية التي كانت خلاصة إبداعية لشاعر مختلف كمرسي جميل عزيز وملحن معطاء كعبدالوهاب.
تتميز كلماتها ببعد فلفسي حين تبدأ وعلى غير المعتاد في الشعر الغنائي برؤية فلسفية عن الوجود الذاتي في سياق نفسي شعري متساءل عن الوجود الإنساني فيما يشبه اللاأدرية الفلسفية التي نطالعها في الشعر العربي الفصيح في قصيدة (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت لإيليا أبي ماضي).
لكن هذه الرؤية الفلسفية في «من غير ليه» تكتسب معنى آخر وأبعادا مختلفة انطلاقا من لهجتها المصرية الجميلة وأجوائها العاطفية التي تهيئ لها والتي تحول معها الأسئلة الوجودية إلى أسئلة عشق من خلالها يمتزج العالمان (الوجود الفردي الإنساني) كأمر لا يمكن للإنسان أن يختاره والوجود العاطفي القدري حين لا يعرف الإنسان كيف وقع في العشق. (زي ما رمشك… خذ ليالي).
هذه الفلسفية لا تنتهي عند التحول من الأسئلة الوجودية إلى الحديث عن الحب بل تستمر في فلسفتها البسيطة والعميقة وهي تتساءل مع الحب وتعيشه وتسبر أغوار الذات العاشقة وتخاطب المحبوب بخطاب عشقي يقترب من الصوفية وتلتقط معاني جديدة دون أن تخرج من سياق الوحدة النصية في جميع حالات الحب ومراحله التي تبدأ بالتساؤل والفجاءة لكنها لا تحكيها بطريقة سردية وحسب ولكن بطريقة سردية شعرية فيها من تقنيات الشعر وتقنيات السرد ما يمكن للهجة المصرية أن تعبر عنها أجمل تعبير دون ان تطرق المعاني مباشرة وإنما تعالج ماورائيات الحب من مشاعر ومخاوف وتناقضات وتقابلات وأحاسيس خفية تختم أخيرا برؤية فلسفية تفاؤلية للحب والأمل.
هذه اللغة الجميلة والإبداع الشعري كانت بحاجة إلى لحن عبقري لكي تكتمل به ولن يكون ذلك سوى عبدالوهاب الذي سكب فيها خلاصة تجربته الموسيقية الفائقة الجمال من خلال لحن يدهشك وهو يزاوج بين المقامات ومشتقات المقامات في كل جزئيات الأغنية والجمل اللحنية فمن النهاوند الذي يمكن القول أنه أكثر المقامات حضورا في هذا اللحن كما أنه يشكل بدايتها أيضا لكن عبدالوهاب لا يستقر عليه فيظل يغير ويزاوج بين المقامات ومشتقاتها.
وتظهر جلية في هذا العمل العبقري لعبدالوهاب مدى الصنعة والحرفية التي يهتم بها أكثر من تركيزه على الجملة اللحنية كما يظهر إلى أي مدى كان عبدالوهاب يعيش الكلمات بكل تفاصيلها وفلسفتها الروحية ليعطيها ما يؤازرها في نقل المعنى بل ما يجعلها شعرية أكثر ومعبرة أكثر… ورغم أن عبدالوهاب كان في الأصل قد لحنها خصيصا للعندليب عبدالحليم حافظ الذي كان من المقرر أن يؤديها لولا أنه مات قبل أن يكتمل ذلك غير أن أداء عبدالوهاب لهذه الأغنية كان رائعا ولحنها كان متناسبا مع صوته وأعطاها أيضا منحى عميقا يجعلها من أهم أغاني هذا القرن وفقا لاستطلاعات جماهيرية وفي الواقع فإن من أكثر الأغاني نخبوية ومن أكثرها شعبية في الوقت ذاته فيها من الإبداع ما يدهشك وفيها من الدفء ما يضيء قلبك ومن الأسرار ما يأسرك ومن الجدل ما لم يتوقف بعد ومن الحضور ما لا يغيب إنها في كل الأحوال أغنية لا تنتهي..
عارف ليه¿¿!!
من غير ليه.