من كأس الشاي إلى كأس الشعر
خالد محمد الشامي

ربما لا أستطيع الحديث عن حياة وإبداع أخ صديق كبشير المصقري دون أن يكون هناك تحيز لشخصه وتجربته وأدبه لا لشيء إلا لأنني عايشت الشاعر مذ كان عقيقا تحاول الصخور إخفاء جوهره إلى أن صار عقدا في سماء الشعر لذلك تكتفي هذه الإطلالة بسرد مقتطفات متفرقة من حياة شاعر شاب لا بهدف التكهن بمستقبل الشاعر وصيرورته فما زالت المسيرة في بدايتها ولكن للإشارة إلى أن الظروف ليست مبررا لقتل الإبداع وموت الأحلام.
بشير المصقري رجل عصامي بكل ما تعنيه الكلمة وهو كذلك لأن والده يحيى المصقري كان رجلا عصاميا أيضا فعلى الرغم من أن كثيرا من أسرة المصقري في الحدا قد اعتمدوا على وجاهتهم القبلية أو نفوذ بعض أفرادها في الدولة إلا أن المصاقرة في يريم آثروا أن يندمجوا مع أهالي مدينة كانت تعتبر القبيلي رمزا من رموز التخلف والبدائية وخطرا داهما يهدد أعراف المدينة وسلمها الاجتماعي.
لكن يحيى المصقري استطاع أن يكون حلقة وصل وملتقى يجمع النقيضين من خلال مقهى متواضع كان يلقي فيه فلسفته ومعلوماته التي تشكلت من تجارب الغربة وتقاليد أهل الوبر وأهل المدر لذلك كان مقهاه خليطا من أهالي المدينة وأهالي القرى وطلاب المدارس في القريبة في مدينة يريم وكانت صداقاته المتعددة تدفعه إلى رفض أخذ قيمة الشاي من الأصدقاء المقربين أو الطلاب الغير قادرين لذلك حينما توفي رحمه الله لم يترك من المال ما ينفع لضائقة أو يفيد وارثا.
وبعد رحيله كان ابنه الأكبر بشير هو من تحمل إدارة المقهى وعبئ الأسرة ومن خلال عمله أيضا استطاع صهر الجميع في بوتقة أوسع وأشمل هي بوتقة الأدب.
وإذا كانت المقاهي الأدبية تقليدا شائعا عرفته كثير من المدن عربيا وعالميا فإن بشير المصقري يعد صاحب أول مقهى أدبي حقيقي في يريم وإن كان ذلك متأخر زمنيا ففي وسط السوق المركزي بمدينة يريم كانت طاولته ملتقى لمن يستمتعون بحلاوة الشاي الذي عرف منذ زمن عند الجميع بـ(الشاهي المصقري) وكذلك لمن يستمتعون بحلاوة الأدب حيث كانوا يجدون في بشير المصقري موسوعة أدبية ومرشدا أدبيا يلوذون إليه وكان بدوره يحتفي بزوار مقهاه خصوصا حين يشعر أن هذا الزائر يجمع بين الحسنيين تذوق الشاي وتذوق الأدب.
كان ذلك المقهى نادرا في ديكوره الخلفي فبينما كان يلجأ أصحاب المقاهي إلى اقتطاع صور فتيات الغلاف من مجلات كالنهضة واليقظة وسيدتي وغيرها أو صور لنجوم الأفلام الهندية التي كانت هي المادة الرئيسية والمفضلة لمرتادي سينما يريم كان بشير المصقري يعلق على جداره الخلفي الذي لا يعود ملكه له وإنما هو جدار لدكان قات مجاور كان يعلق على ذلك الجدار قصاصات لصحف ومجلات نشر فيها نصا أو أجرى لقاء أو كتب عن موضوع أدبي أو موضوع يهم أهالي مدينة يريم كما كان يعلق قصاصات لأصدقاء من يريم نشروا موضوعات في بعض الصحف أو المجلات.
كان يحدث من يتوسم فيه هواية الأدب عن الغيطاني وفاروق جويدة عن القعود وسمير اليوسفي عن جعدان – أحد شعراء يريم – والفنان العديني.. لكن المشكلة التي كانت تواجه رواد هذا المقهى هو كونه مكانا مفتوحا في السوق ومن ثم كان موعد انعقاد ملتقيات المقهى محدودة لكن كان هذا هو المقهى الأدبي الحقيقي في مدينة يريم إضافة إلى جهود زيد ضيف الله ملك في مطعمه.
بعدها استطاع بشير المصقري أن يضم إلى قائمته كتابا وأدباء وتشكيليين كان يشحذ همم الشباب وفوق هذا يتكفل بنشر كتاباتهم في منابر مرموقة كالملحق الثقافي والجمهورية الثقافي ثم الثقافية ومجلة معين وغيرها وبعدها يراقب قدرة هذا المريد على الارتقاء أو النكوص.
كنت واحدا ممن أخذ بأيديهم وتحمل عناء تثاقلهم فعوض بتشجيعه قصور المواهب والخلود إلى السلبية وهو ما قد يجعل من قراءة نصوصه قراءة غير محايدة إضافة إلى أني بعد أن تعمقت العلاقة بيننا كنت أطلع على نصوصه أولا بأول ونرددها في المقهى أو في مقيل بغرفته أو في بيت الفن بيريم. ولهذا كنت أستطيع إدراك أي تغير يطرأ على بعض نصوصه خصوصا أنني أصبحت أحيانا أحد الشخصيات في نصوصه .
ولاحقا حين ترك مقهاه الذي كان يشعر بأنه جزء رئيسي من حياته وكان أصدقاؤه يشعرون بالحنين إلى ذلك المكان لم يتخل بشير المصقري عن الأدب والصحافة ولا عن قدامى الأصدقاء فقد ظل يكتب ويبدع إلى أن أتته جائزة رئيس الجمهورية بعد تأخر طويل عن موعدها لتعيد إليه ألقه الإبداعي وتشكل حافزا له على الاستمرار بعد أن كانت الظروف والأقدار تختبر صلابته بأحداثها المعيقة حينا والمفزعة أحيانا أخرى.
khmhss@gmail.com