حبس المرايا
جمال حسن
كل الثورات مثلتها الفنون فالأحداث الكبيرة ترغم الإبداع على إعادة تشكيل ذاته في التغيرات المجتمعية مع ان القيمة الفنية للإبداع لا تقاس بحداثته كما لو كان نظرية فيزيائية. والهوس الذي كرس له فنانو القرن العشرين في مطاردة الابتكارات وتحويل فنونهم معامل اختراع حداثية هو كذلك محاكاة لقرن علمي بامتياز ملأته ثورة اكتشافات علمية. وفي بلد يخلو من أي اختراع أو ابتكار مصيره الثبات شكل لجعل الأحداث تكرارا مطلقا ماضيا مطلقا.
ينطبق الأمر على اليمن. فمنذ ما يزيد عن ألف عام تبدو بلادنا منسية في غيمة زمن عمياء. هل لذلك علاقة بفقر إنتاجنا الفني على الأقل خلال العقود القليلة الماضية تحتكر فنوننا هشاشة التقليد وبدائية الماضي. وما جعل الثورة اليوم تعيش مأزقا يرتد للبعض كعلامات كفر بها ليس فقط لأننا لم ندرك شكل الصراع القائم أي باعتباره صراعا بين جماعات استغلال تقليدية متحالفة مع كهنوت ديني متجهم وبين أغلبية تريد لنفسها حق الحياة اللائقة. بل أيضا لأن هناك مأزقا جماليا فلم نعد قادرين على إخصاب واقعنا وتنويعه. وعندما كانت الثورة نظرة للمستقبل سرعان ما ثارت كل أشكال الماضي وأعادت إنتاج صراعها. فقد تخلصت من عناوين وطنية كبيرة لمصلحة عناوين طائفية أو مناطقية. والمشكلة الرئيسية آن اليمني يتخلى عن مصالحه المشتركة المرتبطة بالحاجة لسبل العيش الكريم والتنمية ويغدو مأسورا في قوقعة الانتماءات القبلية أو المذهبية.
وعندما تكون هناك اقتتالات عناوينها كيف نصلي أو أينا أحق بالحكم أي الخلافات التي مضى عليها أكثر من ألف عام فهذا يعني أن غيمة الزمن العمياء تلح على حبسنا في وحلها. هناك إشكاليات عميقة تتعلق بفشل الدولة وانهيار الحالة الأمنية. ثم هناك الفقر والحاجة للتنمية أي أن معظمها قضايا آنية لا علاقة لها بالماضي. فاليمن تعاني من انفجار سكاني ومعظم السكان لا يحصلون على مياه أو غذاء أو أي خدمات مثل التعليم والصحة. ما علاقة ذلك بالصراع بين علي ومعاوية¿ إذن كلنا يمنيون ومستغلونا الحقيقيون مجموعة من المشائخ ورجال النفوذ. فهذا يتطلب بدوره إعادة بناء شكل الدولة بطريقة تناسب مواطنة الجميع. وليس ترك البلد مسرح لاقتتال وعبث الميليشيات الدينية والمسلحة. فليس من الطبيعي ترك البلد مسرحا لصراع قديم يعود للعقود الأولى من الإسلام. فاليمني لا يحتاج إلى وعظ تبثه ملصقات تحذرنا من النار إذا تركنا الصلاة أو تتحدث عن شعارات تدك أوصال العدو. فانا لا اعتقد أن أميركا تأبه لبلد غير قادر على الاعتماد على نفسه. والشعارات لن تعطي الناس المياه ولا الدواء.
لماذا لا نتحدث عن المستقبل ومخاطره¿ هل تمتلك الميليشيات وقادة القبائل مشروعا أكثر من تأكيد نفوذهم وتوسيع أرصدتهم المالية. فالبلد يعاني من نقص في المياه ونسبة التركز السكاني في الهضاب والجبال عالية وهو ما يصعب إنشاء بنية تحتية. واليوم نتحدث كذلك عن تسوية سياسية بينما الوضع الاقتصادي مريع ويبدو متوقفا. هل يظل الاقتصاد عاطلا حتى ننتهي من التسوية تلك¿
في الواقع تفضي المشاكل الاقتصادية إلى اضطرابات مستمرة ومتفاقمة. فسوق العمل اليوم المتوفر حمل السلاح. صغار في السن يعملون مقاتلين لجهات راديكالية أو قبلية. لا أعرف كيف سيكون مصير اليمن إذا لم ندرك تماما نوع الصراع الحقيقي الذي يتوجب علينا إنتاجه أي بين جماعات رجعية مستغلة وأخرى تطالب بحقها في الحياة أقلية متغولة وأكثرية مسلوبة. لكن تطريز العواطف الدينية مشوش هائل لمعطيات الواقع. فلم نعد قادرين على مواجهة قوى العماء الراكدة وتركنا المسرح لصراعها أي لذلك القتال الذي مر عليه 14 قرنا ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين. فاليمن ستعاني من الغزاة ونهب ثرواتها إذا اقتصرت مفاهيمنا على انقسامات مرعبة يقودها مستغلون وليس تعارض طرق في آليات الإنتاج. سنموت جوعا وعطشا ليعيش قلة حياة رفاه من نهش لحومنا.
أي أن هناك قوى ثابتة تحاول دائما صياغتنا في أشكالها المفرطة في التشابه. بالتأكيد سنحتاج إلى عمق جمالي حتى نمتلك النظرة. يقول ريجيس دوبريه إن الفن تدمير رمزي لكل السلط. مع ذلك تبدو أسطورة المرايا كما لو تحكي عنا اليمنيين. تقول الأسطورة وهي لكاتب فرنسي وحد تعبيره تعود لزمن الإمبراطور الأصفر بأنه في ذلك الزمن “لم يكن عالم البشر وعالم المرايا منفصلين حيث لم يكونا متطابقين. إذ كانت مملكة الإنس ومملكة المرايا تعيشان في سلام والناس بين داخل للمرايا وخارج منها. ثم أن أه