الاغتراب في شعر البردوني
■ عبد الرحمن مراد
في زمن ما وفي لحظات كثيرة كنت أقف أمام البردوني بقدر من الإجلال والإكبار وكثيرا ما كانت اللحظات تثير الأسئلة في ذهني من تلك الأسئلة السؤال التالي :
كيف عاش البردوني ظروفه الاستثنائية وواقعه الاستثنائي ¿
هل عاش تيها في عتمة ذاته أم اغترابا يتشظى في شعوره نتيجة وعيه به ¿ أم انقطاعا عن الأخر , أم معرفة ¿
لقد عاش البردوني في زمن كان الاغتراب سمته البارزة ذلك لأنه عكس أزمات سياسية واجتماعية وأخلاقية وفكرية ومن زاوية أخرى شعر الإنسان بقدراته وإنجازاته الهائلة في تحقيق قدرا من الوجود مما سبب قلقا وخوفا من القادم المجهول الذي سيحمله الفجر الجديد مثل هذا القلق والخوف نلحظه في ديوانه مدينة الغدة في نص ذكريات شيخين حيث يقول :
دخلت صنعاء بابا ثانيا
ليتها تدري إلى أين افتتح
ولك أن تقرأ ديوان ( من أرض بلقيس ) حتى تجد الاغتراب موضوعا بارزا وملحوظا فيه .
وقبل أن نلج إلى موضوعنا الأساس لا بد لنا من لمحة سريعة عن هذا المصطلح
إذ يرى كثير من الباحثين أن مصطلح الاغتراب ما يزال يعاني من الغموض إذ لم يتحدد مفهومه بشكل نهائي وقالوا أن هذا المصطلح استخدم بدلالات مختلفة فهو من وجه نظر دينية يتحدد في الانفصال .
أما الفلاسفة الوجوديون فقد رأوا في ماركس وهيجل رائدا البحث في هذا الموضوع وقد حددوا مفهوم الاغتراب بقولهم أن الاغتراب انعكاس لتصدعات وانهيارات في العلاقات العضوية بين الإنسان وتجربته الوجودية ( الذات /الموضوع , الجزء/ الكل , الفرد / المجتمع , الحاضر / المستقبل ) أما المنطلق النفسي والاجتماعي في تحديد مفهوم الاغتراب فقد كان يدور في إطار العزلة واللاجدوى وانعدام المغزى الذي يشكل نمطا من التجربة يعيش الإنسان فيه كشيء غريب ويصبح غريبا حتى عن نفسه كما يرى ذلك الدكتور مجاهد عبد المنعم والمقصود بالاغتراب عن النفس هو افتقاد المغزى الذاتي والجوهري للعمل الذي يؤديه الإنسان وما يصاحبه من شعور بالفخر والرضا .
ويرى بعض الباحثين أن الاغتراب فعل اختياري يتم بحرية معرفية تجعل الهوية تتفكك في فوضى الأشياء ومهما تعددت مفاهيم الناس حول هذا المصطلح فإنها تلتقي عند جوهر الترابط الجدلي بين الإنسان ومحيطه فالاغتراب ليس وليد الصراع الاقتصادي كما يذهب إلى كل ماركس وليس نتاج الصراع الجنسي كما يقول فرويد بل هو نتاج أمور وجودية شخصية الطابع , اجتماعية المنشأ كما تقول بذلك بعض الاتجاهات للفلسفة المعاصرة .
والاغتراب ليس موضوعا جديدا بمعناه المعجمي في النتاج الإبداعي العربي لكنه أخذ بعدا فلسفيا جديدا في أدبنا المعاصر وهذا البعد متعدد الدلالات والأوجه ونحن هنا سوف نحاول بيان هذا البعد الموضوعي في شعر البردوني وفق سياقه الزمني الذي تتابعت في حلقات سلسلته مجموعاته الشعرية الصادرة حتى وفاته بدءا من مجموعته من أرض بلقيس وانتهاء برجعه الحكيم بن زايد.
إذ في مراحل التكوين الأولى للبردوني نجد الاغتراب يتجسد في موضوع التفاعل مع المجتمع وعدم إحساس ذلك المجتمع بالذات الشاعرة مما سبب ألما وجرحا غائرا في العمق النفسي للأنا , يقول في نص ( حين يشقى الناس ) من ديوانه الأول ( من أرض بلقيس ) : –
أنت ترثي كل محزون ولم
تلق من يرثيك في الخطب الألد
حين يشقى الناس أشقى معهم
وأنا أشقى كما يشقون وحدي
وأنا أخلو بنفسي والورى
كلهم عندي ومالي أي عند
وفي ذات النص يخلص إلى بيان معاناته وشظف عيشه حيث يقول :
لا ولا لي في الدنا مثوى ولا
مسعد إلا دجى الليل وسهدي
لم أسر من غربة إلا إلى
غربة أنكى وتعذيب أشد
متعب أمشي وركبي قدمي
والأسى زادي وحمى البرد بردي
والدجى الشاتي فراشي وردا
جسمي المحموم أعصابي وجلدي
في خضم هذه المعاناة النفسية والاجتماعية والاقتصادية يجد البردوني نفسه وحيدا بلا معين يحمل الشقاء وعب السنين على كاهله كما يفصح عن ذلك قوله : –
وحده يحمل الشقا والسنينا
لا معين وأين يلقى المعينا
وحده في الطريق يسحب رجليه
ويطوي خلف الجراح الأنينا
متعب يعبر الطريق ويمضي
وحده يتبع الخيال الحزينا
ويبلغ هذا الإحساس ذروته حين يقف عائقا أمام طموحات الأنا وأمانيها الكبار التي تصطدم بالواقع فيحيلها رمادا لا نبض فيها ولا جذوة نار .
ما بين ألوان العناء و بين حشرجة المنى
ما بين معترك الجراح وبي