“التدفق العابر للقوميات “

■ صدام الشيباني



راهن الكثير من المثقفين العرب على الدور العولمي الذي دخل المنطقة العربية بقناع (العولمة ) , على انها المنقذ المعاصر الذي سوف يغير الثقافة العربية وقواعدها , وسيخلق مجتمعا عربيا جديدا . على ان العولمة ستقوي الروابط العالمية وستعددها وذلك بتدفق السلع والبشر والصور ورأس المال والمعرفة , والجريمة والأزياء والمعتقدات الى الحدود الإقليمية وقد تم هذا التدفق الى الداخل العربي , وأخذ أشكالا وعلاقات وشبكات , وهو ناتج عن التطورات التقنية وأنظمة الاتصالات والرغبة في التحرر. في مرحلة لم يكن العرب على استعداد لتقبل كل النتائج الناجمة عن هذا النظام الثقافي الجديد , فقد اخذت الثقافة التقليدية تشن هجوما على التغيرات الثقافية لأنها لمست المواطن وغيرت مجرى حياته , وأرغمته على الإقبال على الحياة المادية والتقنية بكل شراهة خاصة في الدول التي تمتلك وفرة اقتصادية , وصنعت هذه الثقافة فجوة بين الماضي والمستقبل , لعدم قدرة العربي على الربط بين النظامين الثقافيين . فقد كانت المجتمعات العربية والاسلامية تعاني الصراعات الأيديولوجية والسياسية المشحونة بالعداء والوعي المتوتر , وفلسفات الهوية والتصور المختلف لها , والصراع في تمثيل الواقع بين الطوائف السياسية العربية في الأقاليم العربية , فكل طائفة ادعت الحقيقة مع ان الواقع يعكس غيابها تماما عن الشارع العربي .وهذا مؤشر على الحالة الفكرية العقيمة التي دخلها العرب . ومؤشر على محدودية العقل العربي في التعامل مع خطاب العولمة . تراجعت الثقافة القومية العربية أمام هذا التدفق المخيف الذي أكل الأخضر واليابس في الواقع العربي , فقل الإنتاج الفكري العربي , وكذلك العمل الثقافي الرسمي , لأن العولمة اهتمت بالأشكال الثقافية الشعبية , والثقافة الاستهلاكية خاصة ثقافة الصورة التي اخذت تشكل الواقع العربي حسب شروط الثقافة المهيمنة , وخاطبت الجسد بدلا عن الروح . أنتجت العولمة خطاب “الإمبريالية” وذلك بالتركيز على القيم والاتجاهات الثقافية وخطاب الحرية الشخصية , والجنوسة , وحقوق الإنسان , والسياسة والدين , والتكنولوجيا وهي افكار الهيمنة الرأسمالية . وهو خطاب يحاول ضم القوميات في إطار سياسي واحد , تحكمه الولايات المتحدة بكل هيمنتها , وهذا خلق صراعا بين الخطاب الإمبريالي , والخطاب القومي العربي انتهى بانتصار الخطاب الإمبريالي . أنتجت العولمة خطاب التطرف في صيغه المتعددة , التطرف الديني , والتطرف الحقوقي , والتطرف العلماني , الى الدرجة التي جعلت كل هذه الخطابات كأنها تخرج من ذات واحدة , فقد اصطدمت الخطابات ببعضها , وولدت بيئة إقصائية حرمت الكثير من المواطنين العرب من حقوقهم المكفولة في الشرائع والدساتير . تجازوت العولمة حدود الدولة وسيادتها , وبدت الدولة عاجزة عن حماية أراضيها مما يحدث , فقد قضت العولمة على أهمية المكان , وأصبح المكان المهم هو مكان الشركة او المؤسسة التي تقوم ببث المعلومات والتأثير على المجتمع والدولة . فالمكان هو المؤسسة المتعددة الجنسية , وهذا أشعر الدولة بضعفها وعدم قدرتها على المواكبة و التحديث , فخلق تفاوضا بين السياسي والاقتصادي تحكم فيه الاقتصادي على السياسي . عندما عجز المواطن العربي عن مواجهة هذه التحولات لجا الى التقوقع في الفكر الاسلامي التقليدي , والهروب الى التراث , وهي صيغة مرضية وذلك باستعادة الماضي في صورة غير صورة الماضي , أي الصورة المشوهة , وهذه لا تعطيه صيغة واقعية علمية موضوعية في النظر الى قضايا الأمة , بل راكمت المشاكل الى الحد الذي يصعب الحل معه . لقد تبنى خطاب العولمة المركزية وفرض اللغة الاستعمارية على كل وسائل الاتصال والإعلام , فلم يقتنع الداخل الإقليمي بلغته المستقلة , ولا بطرائق التعبير عن القضايا , ولا بقدرته الإبداعية التي تمنحها اللغة , فالمركزية جعلت الأطراف تابعة لها بحكم الغلبة , وليس الرغبة . و لم يجد هذا مقاومة من أي مؤسسة تعليمية أو ثقافية . إن خطاب العولمة دمر الثقة بالنفس الإبداعية , وأوصلها الى الإحباط مما يحدث بالشكل المتسارع , فقد لاحظ المواطن الفارق الحضاري بين العالم الأول , والعامل الثالث , ولذا آمن بما يأتي من الغرب , بل يراه اكثر مصداقية مما ينجز في الداخل العربي , ولهذا يلهث الكثير من العرب وراء إنجاز الغرب الفكري والحضاري متغافلين النفس العربية الإبداعية عندما امتلكت وسائل القوة والسيطرة . إن التدفق العابر للقوميات اخترق العقل العربي , كما اخترق عقول الأمم الأخرى , لكن العقل العربي رأى ما يحدث على انه من المعجزات العقلية التي لا تضاهى , وعلى انه الأفق الوحيد للامتزاج بالعالم الحديث خاصة الغرب . إن التدفق هذا لم يتح للعرب الفرصة لمراجعة بعض العطل الذي حدث للعقل , أو مراجعة الذات أو قراءة الفكر حتى يقرروا ما ذا يمكن أن يأخذوا وماذا يمكن ان يستبعدوا ¿ إن التدفق لم يستاذن احدا , فهو يعمل اليوم ليل ن

قد يعجبك ايضا