إلهانيات



ليلى إلهان
«طنب» لا يسد الريح *
عندما أكون في مزاج رائق , أعرف حينها بأن السماء قد تبسمت لي . وأني على موعد سابق مع نفسي للحلم والتفكير بما احتاج . أو ربما لاستكشاف أموري المفقودة منذ شهور مضت . عندما أكون في تلك الحالة , أنسى بأن هناك ريحا تدبر لي المكائد , وأنها ترغب في تعرية الماضي الأليم أمامي , الماضي الذي طالما احتفظت به طويلا دون قصد مني .. ولم أكن أدري بأنه سوف يكون عذابي الذي تبحث عنه هذه الريح الجريئة في كشف الخبايا وأسرار الذكريات التي امتلكها .
و لم أكن أعرف بأن « طنب « الشبابيك مثلي , لم يكن حاذقا أبدا بإخفاء أوجاعه , لأنه أطلق سراح الريح من قبضته ووشوش لها بالدخول دون إذن مني . وهذا الشيء جعلني أثق بأن «الطنب « لا يسد الريح .
* «الطنب» هو نوع من الخشب الذي يستعمل في صناعة الأبواب والنوافذ الخشبية .

«قد فيه ما يكفيه»
في كل أسبوع يذهب « طه « إلى السينما . يرتب هندامه , يغسل يديه جيدا , يصفف شعره , يدرك بأنه على موعد مع فيلم رومانسي .
وقبل مدة من العرض السينمائي يدخر مبلغا من المال , لشراء « البوشار والبوظة.
في الساعة السادسة من مساء كل أحد يتوجه أليها , يصل فرحا مبتهجا طليق الضحكات , يدخل من بابها العريض لا شيء يقلقه , يجلس بهدوء . ويحدق متابعا العرض الذي يبدأ .
عرض لحياته بكل أدواره الوحيدة والمنفردة بنفسه , هو من كان يقوم بضرب زوجته , ومن كان يحقد على أصدقائه , ومن كان يقتل الحلم والتفاؤل الدفينين قبل وجودهما . لقد شاهد كل قسوته وسلبياته وانحطاطه في العرض الاستثنائي , وتعالت نوبات دهشته من حياته التي مضت , حينها اختتم المشهد الأخير بانتحاره وانسدل الستار على كل معاناته مع الحياة .

الله مع المسكين
المجانين يملئون الشوارع . كأنهم في سوق الحكايات الشعبية , يمثلون أدوارهم بخفة ورشاقة . كل يوم تجدهم مع أشخاص ضبابيين يتحدثون إليهم , ويقبلون رؤوسهم , وبلطف يطلبون منهم مائة ريال . وبلمح البصر يطيرون بأفكارهم المزدحمة نحو الضوء والفراغ . هؤلاء المجانين لعبة حركية منطلقة ’ تمنحنا الفرحة لإعطاء الذاكرة ما يكفي للتفكير بهم وتتبع أحلامهم في الأحياء والشوارع العامة . ونجدهم يبحثون عن سعادة مؤقتة , كي لا يوغلوا في الجنون أكثر , لأنهم بذلك يحاولون أن يبنوا لنا قصورا في الهواء الطلق , ومسارح شاسعة في عنق عبوة « كوكاكولا « حسب تصورهم وتخيلاتهم ولا ندري كيف يكون الخروج من تلك الطاقة المهدورة .

وظيفة «ولو جبر خاطر»
منذ سنوات وهو يبحث عن وظيفة . لم يعد قادرا على أرضاء نفسه ومواساتها بالصبر والانتظار , كل سنة يتجه إلى مبنى الجمهور , يسأل عن عمره الذي ضاع وسط هتافات الأصوات العالية , الأصوات التي هي أيضا تشبه نحيبه السنوي بالخذلان .
لقد أصبحت خطواته ثقيلة , وأصبحت معاناته أكبر من ذي قبل .. إنه المسكين الذي تلاشت أحلامه , وتوقفت أمنياته المعتادة بحلمه المزمن . لم يكن الوحيد في تعاسته تلك , لكنها الشوارع معه في رحلة العذاب , السماء أيضا حزينة لأجله , الشمس ليست مبتهجة كعادتها , الرجل المهزوم الذي بداخله أيضا قلق ومكتئب , ويطالب كأي مواطن بوظيفة له
« ولو جبر خاطر« .

قد يعجبك ايضا