مدينة خرساء بلا عناوين

جمال حسن


 - سأتذكر صنعاء رغم أنها واحدة من أقدم المدن العامرة اليوم. فالأماكن والشوارع كثير منها بلا أسماء. وإذا أردت أن تشرح لشخص عبر التلفون مكانا ما كثيرا ما تتحرك يدك وكأنك تشير إلى مكان يفترضه الخيال. فالعناوين المفقودة في صنعاء لا يمكن أن
جمال حسن –

سأتذكر صنعاء رغم أنها واحدة من أقدم المدن العامرة اليوم. فالأماكن والشوارع كثير منها بلا أسماء. وإذا أردت أن تشرح لشخص عبر التلفون مكانا ما كثيرا ما تتحرك يدك وكأنك تشير إلى مكان يفترضه الخيال. فالعناوين المفقودة في صنعاء لا يمكن أن تشير إلى حيث موضعها بأصبع.
واحدة من أكثر العناوين اللافتة قالها صديقي علوي السقاف حول أن الثورة حوصرت في ميدان التحرير في صنعاء. وهو يقصد سمات البيوت التي بدأت تتخذ شكلا حديثا متأثر إلى حد كبير بالعمارة الجديدة آنذاك في القاهرة وبعض المدن العربية. غير أن ذلك الاختزال العميق للمقولة يبدو أبعد من مفهوم العمارة فالبيوت التي بدأت تنمو في المحيط المتمدد في شارع الزبيري استعادت الأشكال القديمة ومع ما بها من سمات فكانت تشكل بعضا من ارهاصات الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل فيما بعد الثورة أي بروز قوى تقليدية هيمنت على المسرح العام خلال القادم من ذلك الزمن. هل خرجت عما كنت سأتحدث عنه. لا أدري لكن هناك موضوع رئيسي يتمحور حول صنعاء.
شهدت صنعاء أول ميدان حقيقي اشتق اسمه من الثورة التحرير. بعد ذلك تقوقعت صنعاء بالفعل في مساكن منكمشة إلى جانب بعضها شوارع بأرصفة مخنوقة. أي أنها بدأت تكرس ثقافة قمعية بامتياز ترفض أن يكون الشارع فسحة يلتقي فيه الناس. ترفض أي فضاءات. وتشكلت سمات مجتمعية تتقوقع بصورة أكبر في مقايل مغلقة. لذا مع الوقت اتسعت المدينة وكانت الفضاءات عنوان دائم لجشع ناهبي الأراضي. أما صنعاء فقد تضاعفت عشرات المرات بصورة شاحبة وكانت تغزوها دائما أشكال همجية من العشوائية والبناء غير الموظف لصالح التمدن. فانسلخت مسوخ معمارية متخمة بتكلس الغبار والتصحر. فلا شجر ولا متنزهات. إنها مدينة مزروعة بالبارود والقنابل وكل أنواع الموت. هكذا بحسب شاعرة ايرانية عبرت عن طهران في ثلاثينيات القرن الماضي.
تعكس المدن وعي الناس. وهي عندما تشكلت بالطريقة المفرطة في الاحتشام اسواقها ارصفتها حدائق تكاد تكون معدومة عبرت عن وعي القوى التي هيمنت ثقافتها وبرزت نصوصها في كل محتوى عمراني. والأمر لا علاقة له مع الموروث أو التقاليد. لكن للمدن أيضا شخصيتها العصرية. فصنعاء التي لا يمكن أن تشبهها واحدة من المدن أي في سمات شخصيتها خصوصا في المعمار التقليدي وحتى المباني الجديدة التي حافظت على طابع معماري حجري إلى حد ما أبرزت إلى حد كبير شخصية معمارية عريقة. لكنها أيضا بدت كمدينة ممسوخة ومتزاحمة. عندما زرنا معرض الكتاب الأخير والذي استضافه نادي ضباط القوات المسلحة قال صديق انظر إلى روعة هذا المكان وكانت اشجار السرو والصنوبر والطنب المزهرة تعطي صورة جمالية يجسد المكان صورة لمحاولة تمدين صنعاء في عهد الحمدي تم اجتثاثها.
اختنقت صنعاء بقوى حاصرت الثورة والتغيير من كل الاتجاهات. قوى تقليدية أجهضت كل إرادة للتمدن وهي مازالت حاضرة حتى اليوم. بل أنها نجحت في فرض خطابها وواقعها على نسبة كبيرة من اليمنيين. فمشاريع الفضاءات تعود لمرحلة الحمدي. ولا يمكن لديمقراطية أو لتمدن يقوم دون وجود تلك الفضاءات. لا مدينة بدون مساحة تنزه دون أرصفة واسعة. إنها سمة المدينة الحديثة تلك الميادين الواسعة والحدائق العامة المقاهي والمكتبات. لقد احال نظام صالح عام 2011 بين المحتجين وميدان التحرير. فاستعاضوا عنه بساحة الجامعة. وفي الواقع لم تكن ساحة بل شارع عام. ولذا كان التوسع يتشتت في خراطيم طويلة أي انه لم يكن ميدان احتشاد. ومع الوقت يتحول الشارع إلى مخيمات متباعدة وحارات تتشكل فيها انشطة سياسية متضاربة وغير منسجمة. مع أن الانسجام احد مكوناته الاختلافات.
كل الحدائق في صنعاء تعود لعهد الحمدي حديقة السبعين على الاقل كمساحة خصصت ثم تم زراعتها في عهد صالح لذا لم تكن بتلك الكثافة الخضراء كما هي حديقة الثورة. والأخيرة أيضا تعرضت لبتر مساحات واسعة بعضها من أجل مباني حكومية وبعضها لصالح مشائخ وأعيان. ومجددا بعد ميدان التحرير تم محاصرة المدنية في صنعاء في حديقة الثورة والحصبة كما في منطقة السبعين مع أن الفضاء المحيط بحديقة السبعين ظل محميا نتيجة منع البناء حول القصر الرئاسي. ومن تلات صنعاء يمكن مشاهدة الفاجعة. فالمدينة عبارة عن خرسانات مكتضة وتظهر فقط مساحات خضراء صغيرة حافظ عليها وجود السفارة الروسية وبعض اشجار الكافور الباقية من حديقة الاذاعة.
أخبرني أحد أقاربي أن رجلا يعمل في جهة أمنية أبدى امتعاضه للرصيف الواسع الذي يتحلى

قد يعجبك ايضا