الحديدة:مدينة »السور« التاريخية تواجة خطر الاندثار وطمس الهوية

الحديدة/ فتحي الطعامي –
حارة السور من أهم وأقدم المناطق الأثرية في محافظة الحديدة والتي بنيت قبل ما يقارب من 400 سنة كمدينة تجارية وسياحية كانت محط التجار المهتمين بالترويج عن تجاراتهم في بداية القرن الماضي تجار (يونان – وهنود – وفرنسيين – ويهود) جميعهم استفادوا من الموقع التجاري والسياحي لهذه المنطقة للترويج عن بضائعهم سواء عن طريق بيعها لتجار يمنيين أو لإرسالها إلى دول الخليج.. كما شيدت في هذه المنطقة العديد من المباني (الاثرية) سواء التي كانت تتبع السلطات الحاكمة مبنى المتصرفية التركية أو المساجد والبيوت التي بنيت على نمط معماري جميل ومتفرد.. إلا أن هذه المنطقة الأثرية والتجارية باتت اليوم تسير نحو الاندثار والطمس بسبب التغيير المستمر الذي يطال بيوتها ومعالمها سواء من قبل المواطنين أو من قبل الدولة التي تمنح رخص هدم وبناء على أنقاض تلك المعالم التاريخية..
> تميزت حارة السور بالحديدة بأنها من أقدم المناطق التي شيد في هذه المنطقة (الحديدة) بل هي الحديدة الأصلية وبسبب عمرها التاريخي فقد كانت محط رجال الأعمال والمال والسياسة.. فهي وكما يقول أبناؤها تأسست كمنطقة للصيادين قبل ما يربو على 700 عام وقد سميت حارة السور لأنه كان يحيط بها سور من كل الاتجاهات ولا يتم الدخول اليها إلا عبر بوابات ما يزال بعضها موجوداٍ (باب مشرف وباب الجمرك وباب البحر والستر وباب النخيل) كما أنها تحتوي على العديد من العمارات والمنازل والمساجد التي شيد قبل مئات السنين.. كما أن تشييدها كمنطقة تجارية كان في القرن السادس الميلادي وقد بنيت منازلها بطريقة معمارية فريدة استعمل فيها الياجور (الطوب) وقد عمل رجال الحكم في فترات عديدة للنزول فيها وتشييد مكاتب رسمية لهم كما هو الحال مع المتصرفية التركية والتي تأسست في 1909م ولا يزال مبناها حاضرا إلى الآن.. كما أن هذه المنطقة قد احتوت على العديد من المباني ذات الدلالة التاريخية ففيها شيد بنك في الجزيرة العربية بناه الأتراك ليصبح بعد ذلك أول بنك للإنشاء والتعمير في السنوات الاولى للثورة اليمنية سبتمبر..

تاريخ حافل
> كما أن المنطقة قد بنيت بطريقة معمارية مميزة وفريد بالإضافة إلى استعمال الياجور فإن منطقة حارة السور هي المنطقة الوحيدة التي تم فيها بناء أدوار وصلت إلى خمسة والى ثمانية بعكس بقية المناطق مثل زبيد والتي ظل النمط المعماري فيها والعمارات منخفضة.. كما عمل البناءون على التفنن في تشييد تلك البيوت عن طريق إضافة (المشايات) والتي يتم فيها إيصال العمارات ببعضها في الدور الثاني أو الثالث وهي طريقة للترابط الاجتماعي.. كما تفردت منطقة حارة السور بوجود ما عرف بـ(المشربيات) أو البشت وهي عبارة عن وجود قطع خشبية في أعلى العمارات يتم نحتها بطريقة فريدة ورائعة..
ذلك العمل الفني جعل من مبانيها ومساجدها صورة جمالية فريدة.. معالم ما زال البعض منها حاضراٍ إلى يومنا.. فقد احتوت هذه المنطقة على العديد من تلك المعالم التي يمتد عمرها إلى ما يزيد عن 400 عام كما هو الحال مع قصر المتصرفية التركية والذي بني عام 1909م ميلادية على يد الحاكم التركي يوسف بيك كما لا يزال باب مشرف المدخل الشرقي لحارة السور حاضراٍ بالرغم من تحويل القلعة التي أعلاه إلى قسم للشرطة كما لا تزال بعض المباني والتي ارتبطت بشخصيات سياسية واجتماعية كان لها حضور في التحويلات السياسية اليمنية كمنزل (الرصاص والذي آوى العلفي ليلة محاولة اغتيال الإمام أحمد) ومنزل الجبلي جد الأستاذ أحمد سالم الجبلي محافظ الحديدة السابق والذي يعد من أغنى تجار اليمن على الإطلاق في حينها ومنزل فكري وهو تاجر إيراني كان موجوداٍ في بدايات القرن الماضي..
كما لا تزال قلعة باب مشرف والتي تقع فوق بوابته والتي بناها العثمانيون في نهاية القرن الثامن عشر وجددها الشريف محمد مسمار احد المسئولين في الحديدة في القرن التاسع عشر ليتحول اليوم هذا المبنى إلى قسم شرطة باب مشرف..

جذبت تجاراٍ أجانب
> يحي أبناء حارة السور عن تاريخ سمعوه عن آبائهم وما زالوا يتذكرونه ويتباهون به تاريخ يتعلق بالأهمية الاقتصادية فالمنطقة (حارة السور) كانت قبلة تجارية للتجار ورجال الأعمال من اليمنيين ومن غيرهم من الأجانب في بدايات القرن الماضي وذلك بسبب قربها من الميناء البحري فقد تحولت هذه المنطقة إلى مجمع تجاري للعديد من الأسواق فكان فيها سوق العطارين وهو سوق يباع فيه (اللبن والهرد والهيل والقرفة والكمون والفلفل) وسوق آخر للبضائع وفيه يباع (القطن والحبوب) إضافة إلى سوق الحوك والذي كان يباع فيه المصنوعات الحرفية التقليدية مثل (الالحفة – والأقمشة الحوكي إضافة إلى المصنوعات اليدوية).
كما كانت المنطقة يتم فيها المزاد العلني للبضائع الكبيرة والتي يتم تصديرها فيما بعد إما لليمن أو لدول الخليج خاصة تلك البضائع الآتية من الهند وجنوب شرق آسيا وأسواق أخرى مثل سوق الصرافين والتي كان يتم فيها شراء العملة وسوق سكة الخياطة.. كما برز في المنطقة سوق تجار من غير اليمنيين استوطنوا المنطقة نظرا لأهميتها مثل التاجر اليهودي (حبشوش) والشركة اليونانية والتي كان يديرها (رولاتو – وجوتلي هنكي) وهما يونانيين إضافة إلى رجال الأعمال الفرنسي (البس).
ناهيك من أن التجار الهنود جعلوا من أحد شوارع منطقة السور بالحديدة سوقاٍ تجاريا لهم ما يزال يعرف اليوم بأسم سوق البينيان..) وفيه كان التجار الهنود (مسلمين وهندوساٍ) يقومون باستجلاب البضائع من الهند والاتيان بها إلى اليمن تنزل بمنطقة (حارة السور) ومن ثم يتم إرسالها إلى دول أخرى..
كل ذلك جعل من منطقة حارة السوق تكتسب أهمية تجارية واقتصادية بالغة في الأهمية وهي اليوم لا تزال تكتظ بالعديد من البضائع والمنتجات لكن دون المستوى.. بل أن السوق المعروف اليوم (سوق باب مشرف وهو جزء من حارة السور) لا يساوي شيئاٍ بما كانت تمثله حارة السور من حضور تجاري كبير في بدايات القرن المنصرم..

معالم بين الاندثار والطمس
> ومع كل ذلك التميز فإن ثمة ما يثير القلق والخوف على مستقبل هذه المنطقة التاريخية بسبب ما يعتريها من إندثار وتهدم وطمس واستبدال لتلك المعالم بمنان جديدة.. فالعديد من المباني التاريخية والأثرية باتت في عداد التاريخ المنسي وليس له أثر في الواقع وربما حل مكانه بناء على النمط الجديد (كما هو الحال مع جامع المعلق 1700م والذي تم هدمه ليبنى مرة أخرى ومسجد الشارة وجامع إسحاق واليسر وكلها مساجد بنيت منذ مآت السنين واليوم تعرض بناؤها القديم الأثري (وفي غفلة من الدولة وتساهل وتراخيص منها) للهدم لتبنى على أنقاضها مساجد جديدة تحمل نفس الأسماء لكنها لا تحمل عبق التاريخ اليمني خلال فترة زمنية معينة.. كما طال ذلك الطمس الكثير من تلك المباني حيث سلم مبنى دار الضيافة التركي إلى البحث الجنائي قبل سنوات ليتم بعد ذلك هدمه وبناؤه من جديد ليحمل مكانه المحكمة التجارية (حاليا).. إضافة إلى هدم المحكمة القديمة والبنك المركزي للإنشاء والتعمير والذي بني في نهاية القرن الثامن عشر على يد الاتراك وفوق كل ذلك يعتريك الحزن بعد معرفة ما تم للجامع الكبير قبل عقدين من الزمن حيث هدم بالكامل ليبنى من جديد..
ليس الهدم والبناء من جديد هو الوضع الوحيد في حارة السور بل أن الكثير من تلك البنايات التاريخية والأثرية اليوم أصبحت تتعرض لتساقط جدرانها وتهدم أجزاء من سقوفها بسبب مرور الزمن وإهمال الدولة.. بيوت ومساجد ومنقوشات كلها اليوم تتعرض لعوامل التعرية الزمانية والإهمال وعدم الاكتراث من قبل المسئولين فالدولة والتي هي معنية بالحفاظ على هذه المنطقة وتحويلها إلى منطقة تاريخية أثرية تكون قبلة للسياح والزائرين وتعمل على إعادة ترميم ما أضر به الدهر وإعادة بناء ما تهدم… فبدلا من ذلك سعت الدولة إلى التعامل مع ما يجري في منطقة حارة السور باللامبالالة وعدم اكتراث بهذا الإرث التاريخي بل ووصل الأمر إلى قيام بعض مؤسسات الدولة بمنح تراخيص بناء على أنقاض منازل ومساجد بعضها مضى على بنائه ما يزيد على 400 عام.. تحت مبرر الكلفة العالية للبناء بالياجور !!.

تحذير شعبي رسمي
> مواطنو أحياء السور بالحديدة ناشدوا وعبر الصحيفة المسئولين في الدولة والوزارات المعنية والمنظمات المهتمة بالآثار القيام بدورهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تاريخ منطقة تسير نحو مستقبل مجهول يخشاه الأهالي في السور..
وطالب الأهالي من الدولة العمل على تنفيذ إجراءات عاجلة وبصورة سريعة تعمل على وقف الاستحداثات التي تطال المباني الأثرية في منطقة السور بالحديدة ومحاسبة المسئولين عن ذلك..
الاستاذ عبد الله الكولي مدير مكتب السياحة بالحديدة وقال رده عن دور المكاتب الحكومية في الحفاظ على تلك المعالم: (أن المجلس المحلي في المحافظة يتحمل المسئولية الكاملة كون المكاتب المعنية سواء مكتب الآثار أو مكتب السياحة قد وجهوا العديد من رسائل التحذير والمطالبة بوقف تلك الاستحداثات التي تتعرض لها مباني حارة السور التجارية..
مضيفا أن تلك المباني هي الرصيد السياحي الذي يستجلب السياج والزائرين وإذا انتهت يعني توقف السياحة خاصة المعالم أثرية لها حضورها التاريخي الذي قلما يوجد في أي منطقة أخرى..
مؤكد أن حارة السور التاريخية تعتبر من أقدم المناطق الأثرية والتجارية في اليمن وأن الحفاظ عليها يعتبر واجباٍ وطنياٍ لما تمثله هذه المنطقة من ارتباط تاريخي باليمنيين.. وطالب الكولي من المسئولين في الدولة وفي مقدمتهم قيادة المحافظة الاسراع في عمل خطة يشترك فيها ( الآثار والسياحة والاشغال وقيادة المحافظة والمنظمات المعنية (اليونسكو) تعمل على حصر المباني الأثرية في هذه المنطقة وكذا العمل على ترميم المباني التي أصبحت مهدمة جزئياٍ والعمل على إعادة بناء ما تهدم كليا..
واتهم الكولي مكاتب حكومية بمنح التراخيص للهدم والبناء في هذه المنطقة الأثرية بصورة مخالفة للقوانين التي تتعلق بهذه المناطق..
محذرا من التساهل في الحفاظ على المعالم الأثرية وعلى وجه الخصوص منها منطقة حارة السور الأثرية والتي أصبحت اليوم تشكو من إهمال الدولة وعبث المواطنين على حد سواء..

إرث تاريخي
> وأخيرا: تظهر قضية حارة السور التاريخية ومعها كل المناطق الأثرية في محافظة الحديدة الإهمال من قبل الدولة حيال إرث تاريخي ارتبط بجيل بذل كل ما بوسعه ليظهر الوطن في أبهى وأجمل صورة.. لكن ذلك الجيل والذي عاش حقباٍ تاريخية أبدع خلالها آملا في أن يذكره أحفاده بالخير ويثنون على تلك الأعمال الإبداعيه لا يدرك بسبب رحيله أن من أمل فيهم لم يكن على مستوى من المسئولية للحفاظ على ذلك الإرث..!

قد يعجبك ايضا