كفيف تحول إلى عالم

رجاء محمد عاطف


رجاء محمد عاطف –
الدكتور المقالح: نشاطه ونقاشه يذكرني بما قرأنه عن عميد الآدب العربي طه حسين

في اليوم الواحد يولد الكثير من الأطفال وقليلون هم من يصلون إلى ما وصل إليه ذاك الطفل الأكمه محمد ناصر حميد رغم أن مشواره لم يكن مفروشا بالورود إلا أنه حلق عاليا في سماء العلم تاركا خلفه الأرض للمبصرين فنصب نفسه ملكا على عرش اللغة ينثر جواهر علومها على الآلاف من طلبة العلم..

في العام 1958م كانت إحدى القرى الريفية بخولان على موعد مع الفخر بولادة الدكتور محمد ناصر حميد من أبوين ريفيين فلاحين ولما كان يختلف عن بقية أقرانه كونه ولدا أكمه كفيف البصر كانت عاطفة أبويه القوية عليه وحبهم الزائد له أمورا مسلمة لإحساسهم بأنه يختلف عن أقرانه ويحتاج إلى رعاية مضاعفة ولم يدركا حينها أن ولدهما كفيف البصر سوف يضيء بنور علمه عقول المبصرين لم يكن أحد يدرك بأن هذا الطفل الكفيف ستتفجر بداخله براكين من العزيمة والإقدام تصل به إلى واجهة المجتمع ويصبح علما من أعلام اللغة في مجتمعنا فما كاد يبلغ سن الصبا حتى تجاوز تلك المرحلة وحلق بعيدا عن مشاعر الخوف ملتحقا (بالكتاب) وهو في الخامسة من عمره وكان والده -رحمه الله – يعتقد أن مهنته الأساسية أن يكون صوتا مثل صوت الشيخ محمد حسين عامر- رحمه الله – ولكن هذه المكانة على الرغم من أهميتها وقيمتها الدينية والاجتماعية لم تكن موضع تفكيره وكان لابد من أجل أن يصل إلى هذه النقطة أن يكون أحد الطلاب الملتحقين بمدرسة الجامع الكبير بصنعاء وعلى الرغم من معرفته بأهمية الجامع الكبير وقيمته العلمية إلا أن الصورة التي رسمت له عن الجامع في الريف جعلته يتحفظ كثيرا عن أن يلتحق به لأنها كانت صورة الكفيف الذي ينتظر ما في أيدي الناس من نقود ونفسه كانت تعز عليه أن يقبل ذلك.
ظل فترة طويلة هكذا حتى أتى اليوم الذي شكل علامة فارقة في حياته حيث نقل إلىه راديو صنعاء عبر مذياعه لقاء أجراه المذيع الكبير الأستاذ عبدالرحمن المترب مع أول مدير لمركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين الأستاذ علي محمد الحمبصي رحمه الله ففرح كثيرا فتعجبت عن سبب فرحته حين تحدث وكأنه يعيش تلك اللحظة عندما قال لي باللحظات التي تخيلها ورسمها عندما سيلتحق بهذا المركز وقال والدموع تنهمر من عينيه كطفل بريء: لن تصدقي لماذا فرحت لأنني عندما سألتحق بمركز النور للمكفوفين سأدرس ثم أتوظف وسأتمكن من شراء جهاز راديو وهذا كل ما في الأمر لأن الراديو كان بالنسبة لي مملكة حلم ولم أكن أحلم بأكثر من ذلك وكنت أتخيل أنني سأتخرج من مركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين وأتوظف براتب قدره 75 ريالا وأشتري جهاز راديو (أبو كعكة) بـ 34 ريالا.
بقى موضوع الراديو حلما يراوده في المنام ودوما ما يحلم بأنه قد اشترى الراديو وذهب إلى أحد الخياطين وخاط له ثوبا جميلا مزركشا على طريقة ما كان معروفا في الريف آنذاك وصار يضم الثوب إلى صدره ويحضنه بلهفة وشوق.
وأخيرا أتي اليوم الذي التحق بمركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين سنة 1969م وفي هذا المركز ترفع إلى السنة الرابعة تلقائيا منذ البداية ونفعه في ذلك ما قد حصله في الكتاب وخلال أسبوع ظل يومين في السنة الأولى ويومين في السنة الثانية و3 أيام في السنة الثالثة ثم انتقل إلى السنة الرابعة وانتهى الشهر حتى صار في السنة الخامسة والتي ظل فيها سنة كاملة ثم حصل على الابتدائية سنة 1971م..
وتحت وطأة ظروف صعبة مر بها في مركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين حيث كانوا يقتاتون وجبة واحدة في اليوم إلا أنه استطاع بإرادة وعزيمة الواثق من نفسه مواصلة تعليمه بانسجام حتى حصل على مرتبة عالية في الشهادة الابتدائية ولما كان لكل مجتهد نصيب فقد كافأته الدولة بمنحة إلى المملكة العربية السعودية ضمن التعاون الثقافي بين البلدين ولكن لم تأت المنحة إلا وهو في الصف الثالث الإعدادي فسافر وحصل على الثانوية العامة من هناك وبتقدير ممتاز ثم بعد ذلك عاد وكانت جامعة صنعاء قد مر على إنشائها حوالي ثمان سنوات ثم حصل على منحة لدراسة الإعلام في كلية الإعلام بجامعة القاهرة لكن لم يتحقق له ذلك والسبب أن زملاءه الذين ترشحوا معه للسفر عدلوا عن السفر ولم يبق إلا هو وعادت قضية الخوف والتردد مجددا إلى قلبه.
وعاد مجددا إلى جامعة صنعاء وكان الالتحاق بقسم اللغة الانجليزية يعد قفزة هائلة ذات مدلول يتعلق بالسلم الاجتماعي آنذاك ومعنى ذلك أن الملتحق بهذا القسم ذو مكانة اجتماعية كبيرة أو من أسرة مثقفة وهو ابن فلاح لابد أن يثبت أنه مثل هؤلاء الذين يأتون من الخارج ليتعلموا اللغة الانجليزية ومثل أبناء وبنات السفراء الذين سيلتحقون بالقسم نفسه فسجل في قسم اللغة الانجليزية وظهرت نتيجة المقابلة وكان من ضمن 60 طالبا نجح منهم 13 طالبا كان الأول عليهم

قد يعجبك ايضا