اليمن أسطورة ضائعة
جمال حسن


جمال حسن –

هناك فيما نتذكره الكثير مما نحلم به. لكن من منا يمكنه العيش دون هذا الوهم وجود ذاكرة سبق وعشناها. من منا يمكنه اختبار هذا الاختلاط بين ما حدث وما هو ملفق في ذكرياتنا. بالنسبة لليمني يعيش هذا الاختلاط بصورة قلما تتشابه مع الآخرين.
ماذا حل باليمني عندما حضرت الثقافة البدوية لتدمر أحد رموزه الحضارية قصر غمدان. في عهد الخلفاء الراشدين تم هدمه بتوصية الخليفة. بل هناك سؤال سبق ذلك قبل أن يأمر الخليفة بهدمه: ما هو الشيء الذي ذكرته تشمخ أنوف اليمنيين. فأجاب قصر غمدان.
عند ذلك الحد يجد اليمني نفسه كما لو كان معرضا مفتوحا للاختفاء للضياع. عملية اجتثاث رهيبة لشخصيته قصر غمدان مصدر تفاخره ينهار وتذرى حجارته حول صنعاء. في لحظة كتلك تحاول الشعوب مقاومة الغياب باستحضار تهويمات اسطورية. الحسرة تصير مبالغة. فاندثار الحالة التي تتشكل فيها ميزته الحضارية قسريا تحل فيها سمات من الخيال. اسطورة تحل في الواقع. تعيش الذاكرة عادة على ما هو واقع طمرته عوامل التعرية نتيجة النسيان والتلفيق. اختلاط ما هو تخيل وانفعال. اليمني سلسلة من الحسرات والخيبة. غمدان الشهيد دون جنازة احتوته اسطورة من الذكريات.
عمليا هناك وجود لقصر غمدان. كان تحفة اليمني في وجه انحلال تغذى بداخله. حضارة متهاوية حينها كان مازال القصر القائم في غمد صنعاء ذاكرته المتجسدة للعيان. ما تقوله الأحجار لغة الوقت. عندما انهار السد اندثرت الحضارة وبدأ اليمني يتحول مصدرا للهجرة مع ذلك سافرت معه ذاكرته وفخره كما استبقى وراءه التعاسة. غير أن هد قصر غمدان هو الجرح الأعمق في شخصية اليمني. حالة الانفصام المبكر. الاحساس بتمرغ انفه وفي الوقت نفسه تأكيد ذلك الشموخ بفخر زائف. أو بصورة أكثر دقة عدم قدرته على تسمية الأشياء كما هي. لا يجرؤ حتى على قول حكاية الهدم من هو الخليفة الذي هدم القصر. وكأنها لحظة منطقية فعل عبء الزمن. مع ذلك لم ينس تحفته بل غالى في اسكانها مسرح الخيال: قصر من عشرين طابق سقفه من الزجاج. المرمر والاعمدة الرخامية تماثيل الاسود. جدرانه المرصعة بالاحجار الكريمة طلاء من الذهب.
مبالغات صدقها عوض فيها تقاعسه على البوح بالواقع. لأن استبداد العقيدة يطغى على ما يفكر به. اليمني صار يعيش انفصاما بين هويته وما يؤمن به. يخادع ذاته بالايمان ليس لطاقة روحانية عالية بل لأنه لا يستطيع التفكير دون ايقاع اعتياده. العقائد جزء من العادات. اليمني يعيش في التعاسة ليس فقط لظروفه إنما لأنه تقبل ما حل به. هكذا استعان بمخيلة جزافية دون حماية ذاته من مسلسل اجتثاث بدأ مع هدم قصر غمدان. يتحدث عن تلك الواقعة خوفا وهمسا دون تسمية جلاديه.
الملوك الذين دخلوا الاوطان قسرا أرادوا مسخ الشعوب. الملك الفارسي مسح وجه بابل حين دخل بلاد الفرات. بعد إسقاطهم قرطاجة وفتكهم بجيش هنيبعل لم يكتف الرومان بتدمير قرطاجة بل ذروا أرضها بالملح لتقتل فيها الزرع. حتى لا تعود قرطاجة مجددا.
لكن اليمني وجد نفسه في لحظة مختطفة من اعتناقه يتعرض لذلك المسخ. ذهب لجبال الرس في الحجاز كذلك مستقدما الهادي ومستعدا لصورة أخرى من اجتثاث شخصيته. لماذا يتقبل صورته الممسوخة. تتبارى نخبه لتكون مسوخا أخرى وبينما يكونون اسيادا في اليمن يمدون راحاتهم كخدم يمارسون مهامهم بثمن.
في الجزء الثامن من كتاب الاكليل يتحدث الهمداني عن قصر غمدان. يصور المأساة هناك اختلاف حول الخليفة الذي امر بهدم القصر لكنها ترجح انه الثالث. كما ذكر الهمداني تحدثت اسطورة عن ورقة مدفونة تحت القصر ظهرت بعد هدمه قالت أن من يهدمه يموت قتلا. في الواقع قتل الخليفة الذي أمر بهدمه حتى ذلك الذي اشارت له روايات أقل أي الثاني.
مع ذلك لا يمكن ان تكون الحكاية حقيقية. ربما ظهرت بعد فترة طويلة من تدمير غمدان. هكذا ينظر اليمني لمأساة تدميره دون أن يعرف كيف يدافع عن ماضيه او حتى حاضره دون ان يعرف كيف يرى المستقبل.. انها ذاكرة مشوشة ومطمورة.
