راهب في صومعة الشعر

إسماعيل علي مخاوي


إسماعيل علي مخاوي –

من أول الفجر تبازغت تجربة أيوب الحشاش اندهاشات رائعة وتجليات مذهلة ولأن التجربة الشعرية كائن حي ينمو يشتد يسمو يستمر فهي أشبه بالشجرة إذا توافر تربة خصبة ورعاية دائمة وعناية واعية سمقت وتفرعت وآتت أكلها طيبا ولأن أيوب يدرك هذه الحقيقة جيدا ويعرف احتياجاته الملحة فقد تعهد موهبته بالقراءة والاطلاع والصقل ليصبح واحدا من الشعراء المشار إليهم ببنان الإعجاب وإذا كانت مجموعته الأولى (أول الفجر) الصادرة بمناسبة إعلان صنعاء عاصمة الثقافة قد قدمته شاعرا واعدا ومهدت الطريق أمامه ليعلن عن موهبته القوية ويؤسس لحضور شعري ذي اثر بالغ في معرفة الملتقي فإن أكثر من سبع سنوات من مكابدة البحث عن الذات والاحتراق بنار الهجس قد مكنت أيوب من معرفة الطريق إلى طور سينا الإبداع وعلمته اقتراف المغامرة هذا الجنون المقدس الذي لا يكتفي الشاعر فيه بقبس من النار بل يصير هو الضوء واللهب .
من أول الفجر أدركنا كم هو شديد الصراع الذي اعتمل في غيب التكون البداياتي لأيوب حشاش في سبيل الخروج من سطوة الدهشة الأولى ونشوة اللذة البكر للشعور الطاغي بحضور الوحي هذا الشعور الذي يذهل الشاعر حتى عن نفسه .
إن انبثاق أضواء الفجر هو آخر مراحل التململ داخل رحم الذهول وأول محاولات التمرد وإعلان المغايرة لذلك تلوح أشعة الفجر الأول شقوقا متبصرة في جدار الوقت أخاذة في ذهن المتأمل .
والشاعر الحقيقي لا تغيبه جذبة الشعر إلا ليعود مختلفا كل الاختلاف عن أنبياء حرف زمانه شبيها كل الشبه بنفسه هذا الشبه المتمثل بالخصوصية العالية متعامدا مع الاختلاف عن الآخر في إطار المعطى الشعري العام هو الذي يجلي الأصالة ويصنع التميز ومن يتابع تجربة أيوب يدرك ذلك تمام الإدراك . فكلما أضاء له بارق الهجس طار بجناحين من ثقافة متجددة ووعي مثابر يحاول البحث عن أفاق أرحب تتسع لحماقاته ولا غرابة أن تتلبس هذا (الطائر الأحمق) أرواح الكائنات الأسطورية التي تتخطفه منذ ارتكاب الجنون واحتراف الخروج عن المألوف مطلا بنبوته من نوافذ معانيه الشاهقة:
تدري النبوءة أن قلبي غيمة
وبأن طبعي للرحيل مواتي
وبأنني يوما ذبحت غزالة
ودفنتها في كومة الكلمات
تدري النبوءة أن قلبي شمعة
ج
و الريح والأوراق موقد ذاتي
وبأن قلبي من دهور لم يعد
ج
حقل البنفسجö أو تلال نباتö
تدري النبوءة أنني الراوي ومن
ج
فقد الكلام بآخر اللحظاتö
وقد أمعن هذا المجنون في تيه غيبوبته حتى تجلى له جبل الحكمة فتمادى صعودا إلى قلعة في أعالي الكلام بيضاء بياض الدهشة الأولى هنالك صبت له ربة المعنى من دنöها ما أثمله وأذهله وأسفرت عن مفاتن ما كان لبصيرته أن تتشربها ولولا جرأته في اقتحام المجهول:
(أنني أرجو القصائد
إن تعود إلي
(أن ضعنا ..
نضيع معا )

(أحب قصائدي
ألا تفارقني
إلى شفق المدار )
هنالك انفتشت عليه الجهات ليغمره الضوء والعطر :
(يمضي
كسكير ..
إلى جسد الجهات )
في القلعة البيضاء غاب أيوب في وجده الغالب وتواجد في غياب لذيذ راح البياض يتسارد في مداراته ويتطاير في فضاءات القلعة فيجليها أبهى مجالا وأشهى صورا وأزهى معاناة وتتناثر أحزان أيوب وصبره هنا وهناك في جنبات القلعة بمدلولاتها المتعددة ومعادلاتها المتخالفة:
ـ القلعة العالم! حيث ينفتح البعض ليستوعب الكل انفتاح شهية النحلة على أشذاء كل الزهور فتتسع ذاكرة المكان بكل آفاقها وأعماقها وتتمكن مرآة الشعرة من الاكتحال بملامح أكثر مراوغة وأكبر مغايرة:
(هذي ظنون الأرض
قد رصفت
برمان
الخديعة
والمدى الأعمى
يغازلها)
ـ القلعة المعبد ” الروح” يتلاشى الشاعر في خباياها فيبوح صوته بوجهه موحدا في كل تشظيات الصورة ـ المعنى صورة ومعنى الله في الأنا بمعناها الروحي الإنساني فيصلي أيوب على سجادة الخضر مؤتما بابن عربي:
فأصبح قلبي قابلا كل حالة
ج
فدير لرهبان ومرعى لغزلانö
(خذني إليك
أيا محيط الله
خذني إلى الألم الوحيد
أوقفني كمثل القط
عند شجيرة الدراق
أرضعني مصابيح البداية
دع مخلب التنين
ينهشني) …..
في القلعة البيضاء
حاصرني حريق الموج
إيقاع البروقö
على الستائر
صوت من الغابات
جاء به طريق الناي
………..
الناي أحرص
ما يكون على مسراتي
الناي بوصلتي
إلى الفردوس
الن

قد يعجبك ايضا