,تسعى ثقافة ما بعد الحداثة الى تحطيم الثقافة العليا بخلق أنماط ثقافية استهلاكية

صدام الشيباني


صدام الشيباني –
انفتح خطاب الثقافة في مابعد الحداثة على تقنية التكنولوجيا , والتواصل , وهذا أدى الى توسيع الاستهلاك , وزيادة الرغبات , وتحرير الأهواء لدى المرء المستهلك , فازداد الطلب على المواد الاستهلاكية الفنية التي تعوض الذات عن حالة التقشف والزهد , من أجل الحصول على التسلية والمرح , وقضاء وقت الفراغ .
كذلك قام هذا الخطاب بالتوسع الإعلامي الذي يتوجه غالبا الى الجمهور , ويراعي مشاعر الجماهير , ويوجهها نحو الأهداف التي ترسمها النخبة السياسية والاقتصادية , فتتعدد زوايا النظر الى القضايا بتعدد الرؤى داخل الإقليم الواحد , وهذه الحالة تؤدي الى ضياع الحقائق وتشتتها , وذلك برسو العقل على المتناقضات والمفارقات في تلقي المعلومة .
مع هذه الثقافة ظهرت الأساليب المتنوعة , وركزت بشكل كبير على انتاج الدالات وهيئتها , فانقسم الدال وتعدد في ظل هيمنة السطحية والشكلية , وهذا ما جعل كل الأشياء هزلية ومرحية وساخرة , يقوم الجمهور بالسخرية والمزاح مع كل الأفكار الكبرى التي تعتبر مرويات , وسرودا حضارية . وهذا يقضي على كل مظاهر الجد في الثقافة , وتدخل الثقافة الرسمية في حالة تأزم .
تسعى ثقافة ما بعد الحداثة الى تحطيم الثقافة العليا , بخلق أنماط ثقافية استهلاكية , وتلغي معها مقولة الأدب الرفيع , والمعزوفات العظيمة , والمسرحيات , حتى لا تظل الثقافة مقرونة بالتحولات الاجتماعية , وتصبح خاضعة للشركات والمؤسسات الإنتاجية التي تحول السوق الى قيمة استهلاكية , يتناسى القيم الروحية للإنسان , بمزيد من التحول الى الجسد وأهوائه , وينشأ جيل جديد يتنكر لكل النصوص الثقافية الحقيقية التي تناسلت عبر التاريخ لترسخ قيما حقيقية في صناعة المجتمعات .
إذ تشهد الثقافة العربية تحولات تختفي معها الأصوات الثقافية الحقيقية , كالمتنبي , والمعري , وشوقي , والبردوني , وتظهر رموزا هشة لا تقوى أمام العواصف الفكرية , كما نشهدها اليوم , بفعل التحول السياسي . إن الثقافة القرطاسية تسعى الى تغليف قلوب وعقول المتلقين , وذلك باستنساخ آلية ثقافية واحدة تتعامل مع كل المجتمع العربي , وهذا هو المسخ الذي يذيب الذات العربية في أتون الزمن الحديث .
إن ثقافة اليوم تعمل على رفض احترام الخصوصيات , وتقوم بالاعتداء على الإنسان , وذلك بسلبه إنسانيته , واحلامه , وطموحاته , ونفسيته , وتفكيره , وتجعله عرضة للمواقف المتقلبة التي تختلط فيها الصور وتتنوع , وهذا بدوره يؤدي الى تقليب الذات في المواقف المتعددة , الحزينة , والسارة , المؤلمة والمضحكة , والجادة , وهذا يجعل المرء خاضعا للأني واللحظي , ويتناسى أنه يعيش خطوات الى مستقبله , إنها ثقافة الإنسان المستلب تماما .
بالإضافة الى أن هذه الثقافة تعمل على توحيد مشاعر الإنسان تحت راية واحدة , فإن الإقليمية , والجغرافيا والتاريخ , لهم نصيبهم في تشكيل الإنسان , ولا يمكن أن نعزل الإنسان عن بيئته , أي أن هذه الثقافة تجعل الإنسان العربي عرضة لقوانينها في الخليج العربي , ومصر , والمغرب , واليمن , رغم الاختلاف الثقافي من إقليم الى آخر , فهي تجمع المواقف متناسية الخصوصية الثقافية والقومية والعرقية في هذه الساحة .
تركز ثقافة ما بعد الحداثة على صناعة الفوضى العارمة , واللا متوقع في الزمان والمكان , وذلك بصناعة كمية كبيرة من الأشكال التعبيرية , إذ تلعب هذه الأشكال لعبا حرا في عقل المتلقي , ولا تخضع لأي نظام يسيطر على مجراها , ضمن مسمى (جماليات الفوضى ) على ان ذلك يعطي المرء حرية , ورغبة , وإرادة في خلق ذات حرة , لا تخضع لأي قيود .
يضيع مع هذه الحالة التصديق بوجود قيمة واحدة في الحياة , وهذا يدخل في إطار العبث الممنهج الذي توجهه الدول الكبرى المسيطرة على موارد العالم , من اجل الحفاظ على المكاسب ,وترك الإنسان المواطن يعيش لحظات قاسية مع هذه الفوضى , إذ لا يعرف من أين خرجت , ومتى ستنتهي ¿
أوجدت هذه الثقافة الشكوك حول المعرفة , والدين , والعلم , والماركسية , والقيم , من خلال تفكيك وتجزئة المقولات , والعمل على إيجاد ما ينقض ذلك , فتداخلت العلوم , والفنون , والاديان , والفلسفات , الى الدرجة التي تم فيها مزج كل ذلك , حتى تضيع الحدود التي تفصل كل مجال عن الآخر . إن هذا المزج المقصود ولد شكوكا كثيرة , وهذا هو الزعزعة العقائدية المقصودة التي دخلت الثقافات وسيطرت على الثقافات الضعيفة التي لا تمتلك الحجج القوية في السيطرة والبقاء .
إن ثقافة الشك هزمت الإنسان تماما , وحولته الى شيء من الأشياء , تعامله سلعة تباع وتشترى , وذلك بضمه ضمن عالم الطبيعيات , وتخلت عن ثقافته وروحه ودينه وقيمه , وهذا عزز الطمع والظلم , والقسوة والقتل في العالم , فمن يجرؤ على إيقافها ¿ و هذا مخالف الشك الديكارتي أو الغزالي المؤدي الى البحث والتأمل والمتعن وراء الحقائق , لكن الش

قد يعجبك ايضا