البردوني في «جواب العصور».. حين يتحرك الماضي ليضعف الحاضر 2-2

عبد الرحمن مراد


عبد الرحمن مراد –

عالم البردوني النقي عالم مبدع يخلق عوامل التجدد غير مقيد بفكرة مستهلكة معيقة لحركة المستقبل أنه عالم ثائر على كل شيء بحيث تصبح الحياة منتجا ثرا غير متكررة أو مجترة من ظلال الماضي بل مفعمة بأسباب الأرتقاء الجديد الذي يلبي حاجات الراهن ويتجاوز قيود الماضي لاحظ الأفعال (أستفتحي – يرف – يثمر ) في البيت الثالث وهي أفعال تستشرف المستقبل باعتباره فتحا جديدا في طياته أحداث تململ الشباب وثورته ثم لاحظ الكلمات « الخضراء – أبكارا « بما يحمل مدلولها من أبعاد أنزياحية تومي إلى الفكرة كتجديد تغييري متغاير لا يماثل إلا الواقع المتحرك والطور الحضاري الأجد الذي يدل على الذات أو هوية الذات المعاصرة والمتجددة :-

يا كل شوط تطاول لن نقول متى
ننهي ولا كم قطعنا منك أمتارا
تمتد نمتد نصبي كل رابية
وندخل المنحنى والسفح أفكارا
نحيل كل حصاة شهوة وصبى
نعبئ الريح أشواقا وأشعارا

ننصب في كل تل أعينا ومنى
نخضر أودية ننهل أمطارا
نغور في الغور كي ترقى مناكبه
تحتلنا الأرض أو طانا وأوطارا
نجيش فيها قلوبا كي تقلبنا
سفرا وتكتبنا دورا وأشجارا
تزكوا بنا وبها نزكوا تصوبنا
للغيم برقا والأمواج تيارا

تبدو التجربة الشعرية هنا وكأنها قادرة على إعادة تشكيل الموجودات ذات الخصوصية السكونية حتى تنبعث منها الحركة والتمرد فهي تغوص في الماضي لتكتشف حركة الجذور وتطاولها لتجعلها في نسق متوحد مع حركة المستقبل فامتدادها امتداد عدمي في مقابل امتداد حركة المستقبل :-

يا كل شوط تطاول لن نقول متى
ننهي وكم قطعنا منك أمتار
تمتد ..نمتد .. نصبي كل رابية
وندخل المنحنى والسفح أفكارا

إن ثورية البردوني في النص تتجلى في تثوير المكان فهي تبدع فيه الحركة والتململ وتخلق فيه مشاعر الثورة والتحول كانتصار للحركة وتجاوز لخصوصيته السكونية فبدت الموجودات المكانية ذات أبعاد إنسانية تؤكد الفعل الثوري كتجديد يشرئب إلى الغد لاحظ أفعال الأبيات :-
(نصبى ندخل نحيل نعبئ ننصب نخضر نفور ترقى تحتلنا نجيش تقلبنا تكتبنا نزكو تصوبنا ) .
ألا تلاحظ أنها أفعال تغيرية ثورية ثم لاحظ معمولاتها :
( كل رابية – المنحنى والسفح أفكارا – كل حصاة شهوة وصبى – الريح أشواقا وأشعارا ) فالصورة الشعرية من خلال تفاعلها مع المحيط المكاني تفضي إلى حركة تثويرية حيث تتجسد فاعلية المكان عبر الحركة التثويرية لتقضي إلى دلالات التحول .
والحركة هنا تجسد هوية الشاعر الثورية وتجسد مبدأ التمرد وحضوره الفاعل في بلورة رؤيا شعرية تتمرد على اللحظة الساكنة كي تبدع آفاقا جديدة تتأبط آمال الجماهير التي ترفض أشكال القهر والظلم والإذعان :-
حين تغشى البيوت من أين تأتي
من رياح كما تروغ الطريدة
فأراني حينا بروقا وحينا
أنثني غيمة خطاها ونيدة
وأوانا أحسني فيضانا
يمضغ الرمل والشظايا البديدة

فالردى هنا يعادل العجز والسؤال في صيغته المركبة والمقصود بالصيغة المركبة كما قالها الناقد عبد الودود سيف الجمع بين التقرير والسؤال في آن معا في صيغة واحدة وظاهر الصيغة السؤال ومضمونها الفعلي التقرير والسؤال في تلك الصيغة من المميزات الأسلوبية عند البردوني وحتى تتضح الصورة نقول أن الأبيات السابقة من قصيدة بعنوان ( ليلة في صحبة الموت ) ومطلعها :-
ساعة يا ردى أتم القصيدة
هاك قاتا وجرة وجريدة

والضمير في البيت الأول يعود على الردى الذي أسلفنا القول عنه في الأسطر السابقة أنه يعادل العجز إذ أن القصد الفعلي من السؤال « من أين تأتي « هو تغطية مضمونة المقرر فيه بصبغة السؤال « أمن رياح « كما تروغ الطريدة « والمضمون كما تلاحظ يرمز إلى التغير فالرياح في مدلولها الذهني حركة وكذا الفعل تروغ في مدلوله حركة والطريدة في مدلولها حركة .. وكان تجربته مع الردى تعادل تجربته مع الحياة وصيغة السؤال لا تحمل المدلول القديم لها كأستنكار ولكنها تتضمن معنى التمرد إذ يمكن الاستغناء عنها وتصبح العبارة «حين تغشى البيوت تأتي من رياح كما تروغ الطريدة « وبذلك يتجلى المعادل كرافض للفناء بمعناه الحسي الذهني كأنتهاء وراغب فيه كتجديد يعيد صياغة الواقع وفق رؤيا الأنا الشاعرة « التي ترى في نفسها برقا وغيمة « وتحس أنها فيضانا يطمر الماضي ويعيد صياغة الموجودات المكانية والأبيات التالية تؤكد ما ذهبنا إليه:-

قل تريد الهروب مت مرارا
ونجت لي أرادتي والعقيدة
كم مضت بي أغبى المنون

قد يعجبك ايضا