ألقنا يخبو.. مدننا تحتضر

جميل مفرح


 - ما من زائر تذوقت قدماه ترابها واستظلت قامته بسمائها وارتوت روحه من هجسها ومائها إلا واستعمرت قلبه حبا وألفة وطمأنينة واستحضرت في مشاعره وخياله أسراب الدهشة والإعجاب والإكبار لتتفتق بذلك قرائح المدح والثناء وتسفر محبتها
جميل مفرح –

ما من زائر تذوقت قدماه ترابها واستظلت قامته بسمائها وارتوت روحه من هجسها ومائها إلا واستعمرت قلبه حبا وألفة وطمأنينة واستحضرت في مشاعره وخياله أسراب الدهشة والإعجاب والإكبار لتتفتق بذلك قرائح المدح والثناء وتسفر محبتها لديه وشواهد وقلائد التاريخ عن تفرد عشقي لا إرادي يتجلى في ما يقال ويكتب عنها وعن قداستها التاريخية عن وهجها وبهجتها عن حجرها وشجرها عن دفء قلبها وحضنها وروعة وقداسة ملامحها التي لا تشيخ وعن حميمية أماكنها التي تضاهي حميمية وبساطة وودودية إنسانها..
إنها اليمن بحواضرها المشعة ألقا وفتنة.. هكذا قرأنا وسمعنا عنها أينما ولينا أوجهنا ومقاصدنا وكلما أعلنا انتماءنا إليها في أقاصي ودواني البقاع.. تغمر البهجة قلوبنا والعزة عواطفنا ومشاعرنا حتى تشرغ بها أعيننا ابتهالا وفخرا وشكرا لا حدود له حين تغدو في مجالس الغربة وموائل الأسفار عنوانا مقصودا لقصائد شعر كل يصوغها حسب قدراته وقدرتها على الإيقاع به في غرامها الذي لا ينجو منه حس ولا تقدر على مجانبته عاطفة.
كم من الشعراء والأدباء والفنانين وكم من السياسيين والقادة والمنقبين والمؤرخين بل والبشر عموما سقطوا في عشقها فقالوا فيها ما لم يقل في غيرها من المواطن والبلدان حتى أننا في أحايين قد غزتنا الغيرة عليها من فرط وبلاغة ما أدركها ونالها من غزل الكتاب ووصف القائلين..
فماذا عنها اليوم¿! هل ما تزال في ذات المكانة العشقية والقدر الوصفي الذي استحقته طوال قرون من الزمن أم أنها فقدت شيئا من ذلك البهاء والسمو¿ ذلك التساؤل يفرض نفسه كل لحظة ويجبرنا على تقبل حضوره كل تأمل وتفكر.. خصوصا ونحن نرعى جوعى في قفار أزمة تشعل من يوم لآخر اخضرار بهجتنا وتستنزف من لحظة لأخرى رصيد أمننا وأمننا للحظة التالية.. كل ذلك ونحن شهود عيان نلوح للأخطار بأن اذكرينا زورينا لا تبارحينا عن رضى وتقصد واحد لا ندري له سببا أو داعيا مقنعا.. وكأننا إنما نعلن انتقاما منها ومن فعلها الحضاري والعاطفي.
صنعاء.. عدن.. تعز.. رفوف في حديقة غناء كنا وما زلنا نقتنص منها حمائم البهجة ونغتال فيها مراجع التاريخ بالحسرة والنسيان.. هذه المدن المدهشة أو على الأصح التي كانت مدهشة.. من يتخيل أنها ستعيش وتشهد ما يفعل بها من نكال في الإمتاع وخوضها في الملاحم أتصور ما يحدث لهذه المدن الرائعة وكأنه خربشة وحل أو فحم عبثية متعمدة تجري على وجه لوحة نادرة لبيكاسو.. ما يحدث في حق هذه اللوحات الطبيعية والتاريخية والإنسانية إجرام خطير يجب أن يتوقف قبل أن يرتد إلينا طرفنا والأدهى والأكثر إيلاما أنه يحدث برضى أو بمساهمة من أبنائها الذين يفترض أن يكونوا أسوارا لحمايتها..
أخيرا على الجميع بلا استثناء التوقف عن كل هذا العبث المؤذي وهذه الفوضى اللامعقولة علينا أن نصحح أخطاءنا قبل أن تتفاقم وأن نستدرك ما يمكن أن يستدرك ما دام مستطاعا.. حواضرنا الجميلة تحتضر ونحن نساهم في الإجهاز عليها لا ندري انتقاما ممن ولماذا¿! والله من وراء المقصد والمبتغى.

قد يعجبك ايضا