تعز.. رأس الماليـكن جبانا◌ٍ


كتب عباس السيد –
منذ ثلاثينيات القرن الماضي كانت العقبة الرئيسية أمام الأحرار ـ وقد كانوا مجرد فئة قليلة من المثقفين ـ تتمثل في عدم وجود حاضنة شعبية يستندون إليها في حالة تأسيس كيان سياسي ثوري معارض للنظام الإمامي فعلى الرغم من الأوضاع المزرية التي كانت سائدة في تلك الفترة إلا أن الشعب كان يْسبح بحمد الإمام ويتعامل معه كواحد من مقدساته .
عام 1942 م التقى جازم الحروي ـ وكان تاجراٍ ثرياٍ ـ بالنعمان والزبيري وقال لهما : « إلى متى تظلون تضيعون أفكاركم وأدبكم في تمجيد الإمام اخرجوا إلى الشعب وأنا سوف أدعمكم ..» المبادرة الوطنية الجريئة التي قرأتها في أكثر من مصدر بدت لي غير منطقية وكنت أشكك في مصداقيتها إذ من غير المعقول أن يأتي تاجر ليكون مرشدا ودليلا وطنيا يسير خلفه النعمان والزبيري « الأستاذ وأبو الأحرار « ولم أصدق هذه الواقعة إلا بعد أن وجدتها في مذكرات النعمان نفسه .
لم يكن النعمان والزبيري غائبين عن هموم الحروي وتطلعاته الوطنية ولكنهما وغيرهما من الأحرار كانوا في انتظار تلك الفرصة كما لم يكن الحروي أقل وطنية أو وعيا ووفاء لقضيته الوطنية من الزبيري والنعمان وقد تجلى ذلك من خلال مواقف الحروي في مساندة الثورة والتي سخر لها كل إمكاناته فكان مثلا للتضحية والبذل والعطاء .. ونظراٍ لأهمية هذه الشخصية والأدوار التي لعبها فقد خصصنا له مادة مستقلة ضمن هذا الملف .
عانى التجار في تعز من احتكار نظام الحكم للتجارة ومن حكومة لا ميزانية لها حيث كان كل شيء يتم بأمر الإمام فعلى الرغم من إتاحة الإمام فرص العمل التجاري والبناء في تعز بفعل عملية التطور ولتواجد السفارات في تعز باعتبارها عاصمة الحكم واحتياج السفارات إلى مبانُ كمقرات لها وسكن للعاملين فيها إلا أن اتجاه نظامه كان يضعف عملية التطور بكل أشكالها.
ساهم تجار تعز المهاجرون في ارتيريا واثيوبيا وكينيا بجمع ثمن المطبعة التي استخدمت لإصدار صحيفة صوت اليمن وطباعة المنشورات التي كانت توزع في المدن اليمنية وكان على رأسهم جازم الحروي والحاج غالب سعيد صالح ومطهر سعيد صالح وأحمد عبده ناشر وعبدالقوي الخرباش وأحمد العبسي ومحمد مهيوب ثابت.
لقد كان أولئك التجار بمثابة القاعدة التي استند إليها الأحرار بل هم الشرنقة التي تلتف حولهم لتحمي حركتهم وتمدهم بالأموال فقد كانوا يدفعون الاشتراكات بسخاء لحركة الأحرار قبل ثورة 48م لكي تواصل نشاطها وكانوا يستضيفون أعضاءها في عدن أوقاتاٍ طويلة حين تضطرهم الظروف السياسية للخروج من اليمن فراراٍ من اضطهاد الإمام.
توجه جازم الحروي إلى جيبوتي وظل فيها شهراٍ في انتظار وصول المطبعة من القاهرة وما أن وصلت حتى تولى بنفسه شحنها إلى عدن وقام بتركيبها المناضل سعيد الدمشقي الذي استدعي من صنعاء لهذا الغرض.
أنفق الشيخ أحمد عبده ناشر العريقي الذي كان يمارس التجارة في كينيا كل ثروته ولما أفلس عاد إلى عدن للمشاركة في إصدار صحيفة صوت اليمن وكان يكتب معظم المنشورات بخط يده .
وعندما عاد عبد الغني مطهر من هجرته إلى تعز أواخر الخمسينيات بدأ يراقب الوضع عن كثب وعمل على خلق صلات مع العناصر الوطنية من المشائخ والعسكريين والموظفين . لقد اقتنع مطهر عن إيمان وطني أن النظام الإمامي بما يتصف به من تخلف وممارسة الظلم والاستبداد لا يمكن أن تتطور اليمن بوجوده ومن ثم صمم على النضال في سبيل إنهاء الوضع الإمامي بأية وسيلة .. فكانت اتصالاته بالوطنيين والتفاهم معهم لإقامة تنظيم وطني سموه « خلايا « لإسقاط النظام الإمامي وتولى عبد الغني مطهر قيادة ذلك التنظيم الذي يعد الأقدم على الساحة السياسية اليمنية ولا تسبقه في التشكيل إلا هيئة النضال « التي أسسها المطاع عام 1937م ـ بحسب الصحافي المناضل محمد اليازلي ـ مثل عبد الغني مطهر الواجهة بينما قام علي محمد سعيد بدور الجندي المجهول وتميز بالسرية الشديدة في كل مراحل نضاله.
تمتع غالبية التجار في تعز بالحس الوطني والمسؤولية الاجتماعية ولم يكن جمع المال وزيادة الأرباح هدفهم الأساسي أو الوحيد فماذا يعني أن يجمع أحد التجار « أمين أحمد قاسم « إلى جانب وكالة سيارات اللاندروفر وأسبرو و سوني وكالة توزيع عدد من الصحف المصرية ما هو الربح الذي سيحصل عليه من هذه الصحف ¿ سوى أن هذا التاجر على درجة من الوعي والثقافة فرضت عليه أن يسهم في تنمية الوعي السياسي والثقافي لأبناء مجتمعه .
حتى المحلات التجارية التي ظهرت في تعز في الخمسينيات ومطلع الستينيات كانت تحمل أسماء تعكس وعي أولئك التجار بالقضايا الوطنية والقومية وكان في المدينة « مستودع الحرية مستودع الوحدة العربية».
كان استديو أحمد عمر للتصوير في شارع 26 سبتمبر ملتقى دائماٍ لأبناء المشائخ الذين كانوا رهائن في قلعة القاهرة وعمل إلى جانب استديو جاود نوري على توثيق مشاهد الإعدامات التي نفذت في ميدان الشهداء للكثير من معارضي الإمام وعند إضراب طلاب المدرسة الأحمدية بتعز تكفل التجار بتقديم كل المؤن الغذائية وتولى أحمد عمر « والد المناضل سلطان أحمد عمر « توفير المياه للطلاب المحاصرين على نفقته طيلة أيام الحصار.
وكذلك كانت صيدلية العطاب وهي واحدة من أقدم ثلاث صيدليات في المدينة ملتقى للمناضلين في حرب التحرير من أبناء الجنوب .. وفي العقبة « الطرف الشرقي لشارع جمال عبد الناصر « كان مطعم بلقيس المكان الآمن للقائد علي عبد المغني حين يأتي من صنعاء للالتقاء بأعضاء خلية تعز .
كان علي محمد سعيد يمارس نشاطه التجاري في المخا واستأجرت الفيلا التي كان يمتلكها في تعز للسفير الروسي وعندما بنى منزلا آخر استأجره كمقر للملحق التجاري السوفيتي ثم بنى منزلا ثالثا استأجره الملحق الثقافي السوفيتي أيضا بينما كان علي محمد سعيد يعيش في عشش المخا ـ كما يروي في مذكراته التي أودعها في مركز الأمل ـ .
وفي بداية الستينيات سمح الإمام بإقامة شركات مساهمة بين الحكومة والتجار فتأسست شركة الطيران وشركة الكهرباء وشركة المحروقات وكان للحكومة (51%) من رأس المال و(49%) أسهم للآخرين وكان معظمهم من التجار في تعز أمثال عبد الغني مطهر وعلي محمد سعيد أحمد ناجي العديني عبد القوي حاميم عبد العزيز الحروي أحمد عبدالله العاقل راجح حراب وأولاد المحضار « عبد الله زيد وأخيه أحمد عبدالله زيد الذي تعين كمدير عام لشركة الطيران .
شكلت الشركات التي ساهم فيها التجار الوطنيون وغيرهم من العناصر التي تواجدت في تعز غطاء لتحركاتهم الخاصة بالنشاط الوطني وخاصة شركة الطيران فقد كان عبد الغني مطهر نائب رئيس مجلس الإدارة وعلي محمد سعيد عضو مجلس الإدارة.
وحين آلت تلك المؤسسات إلى القطاع العام نهاية الستينيات وبداية السبعينيات صودرت حقوق القطاع الخاص بقرار تأميم غير مكتوب ولم يعوض كل المؤسسين المساهمين بهذه المؤسسات.
نماذج من التجار الوطنيين
بعد الثورة مباشرة كان سلام علي ثابت أول من أسس ناطحة سحاب في صنعاء وكان يملك فندق الإخوة بتعز- حسب بعض المصادرـ ويعد واحدا من مناضلي ثورة سبتمبر لكنه اقتيد إلى سجن رازح بعد حركة نوفمبر وبعدها تلاشت تجارته تماماٍ.
ـ المناضل التاجر الوطني عثمان قائد سلام الذي قدم شخصياٍ قرضاٍ مالياٍ كبيراٍ لحكومة عبد الله الوزير وانتهى بإشهار إفلاسه إثر فشل ثورة 1948م.
ومن النماذج التي جسدت أنصع صور التضحية والصفات المتميزة للتجار الوطنيين من أبناء تعز في سبيل تخليص الشعب اليمني من حكم بيت آل حميد الدين:
ـ الأستاذ عبدالغني مطهر الذي ضحى بكل ثروته المالية في دعم العمل الوطني منذ العام 1955م وحتى نجاح الثورة السبتمبرية 1962م وهو الذي سافر من قريته في الأعروق وعمره 10 سنوات وركب البحر وعاد إلى اليمن بمشاهدات حضارية وعمل على تأمين الثورة.. عام 1967 دفع مبلغاٍ كبيراٍ كرشوة للخروج من سجنه كي يتمكن من المشاركة في حشد الدعم والمشاركة في فك حصار السبعين .
وعلى الرغم من المحاولتين الجريئتين لإسقاط حكم الأئمة في 48م ـ 1955م وإعلان إفلاس بعض التجار المغتربين استمر دعم التجار لأنشطة المعارضة التقليدية بجوانبها المختلفة حيث واصل تجار تعز في المهجر والداخل دعمهم المادي والمعنوي لفصائل المعارضة الوطنية التي ظهرت تباعاٍ منذ العام 1957م في تعز أولاٍ ثم في غيرها من مدن ومناطق نفوذ النظام الملكي البائد.

المراجع :
سعيد الجناحي في ندوة وثائق الثورة تعز ج 5 .

قد يعجبك ايضا