
إعداد/ افتكار القاضي –
من الناس من يحمل عبدالناصر مسئولية التضحية بالمصريين في اليمن والتدخل في شئوننا.. ومنهم من يسفه لغو الحديث هذا!!
هؤلاء النخبة كانوا شهوداٍ على المحنة وشاهدوا “مصرع الابتسامة” فحين وصلوا إلى هنا أول مرة لم تكن في بالهم فكرة “ثورة”.. بل جاؤوا في إطار تعاون ثنائي وبروتوكولي بين دولتين – بين ناصر والإمام- لبناء أساس قوي للجيش اليمني الملكي لحماية الشمال من تسلل الانجليز لكنهم حين تجولوا في أرجاء البلاد صعقتهم الكارثة!!
وجدوا دولة بلا مقومات دولة.. وشعباٍ بلا حياة.. فاهتزت ضمائرهم.. وهنا تغير الموقف وتحولت المهمة إلى تعاطف إنساني بمعنى الكلمة!!
سمعوا نبض الناس وأنين الأحرار وأحسوا بظلم لا يحتمله بشر شعروا بثورة على وشك الانفجار فقرروا البدء في الأخذ بيدها لانتشال الشعب المطحون!!
اليوم يروون الحقائق ويفندون مزاعم التدخل المصري والغزو المبطن.. يضعون النقاط على الحروف كي يردوا الاعتبار لمصر لا لعبد الناصر يقولونها مدوية “ثورة اليمن ولدت يمنية قبل زمن ناصر”.. والبقية في التفصيل التالي:
هيئة التحرير
اللواء صلاح الدين المحرزي كبير معلمي البعثة العسكرية إلى اليمن عام 1957وكان قائد لواء مشاة ووكيلاٍ للمخابرات العامة وله مؤلف اسمه الصمت الحائر وثورة اليمن .. يقول عن تجربته مع أول بعثة عسكرية مصرية إلى اليمن .وصلت أنا ومجموعة من الزملاء يوم 17 يناير 1957م بتكليف من القيادة العربية المشتركة واتخذت الترتيبات لبناء بنية أساسية قوية يمكن أن تكون أساساٍ لقوات يمنية قادرة على الدفاع عن اليمن أمام المحتل الانجليزي في جنوب اليمن ومنع أية أطماع في الشمال وعندما كلفت بالمهمة كنت أنا النقيب صلاح المحرزي والأخ محمود عبد السلام والملازم عادل السيد والمقدم حسن فكري الحسيني رئيس البعثة رحمه الله والشاويش حسن محمود سليمان والرقيب حجازي .وبعد فترة وجيزة من الاستطلاع ودراسة متطلبات إقامة نواة للجيش اليمني وشهادة للتاريخ أن التعليمات الصادرة الينا لم تكن سوى أن نكون في خدمة اليمن وبناء قوات مسلحة يمنية لم يكن هناك أي تعليمات أو ترتيبات لإقامة ثورة ولكن بناء جيش يمني يكون سنداٍ للامة العربية في جنوب البحر الأحمر وخصوصاٍ مع تزايد النشاط الاسرائيلي الذي بدأ يظهر في تلك الفترة ..
مرت فترة بسيطة نسينا خلالها أننا مصريون ووجدنا أنفسنا كما لو أننا ولدنا في اليمن .. لأننا رأينا وسمعنا من خلال لقاءاتنا بالإخوة اليمنيين وزياراتنا للعديد من المناطق في اليمن فوجدنا أن هذا الشعب يعيش حياة فظيعة لا يقبلها بشر ولا يرضي بها إنسان عربي …. لا يملك من أمره شيئاٍ …. شعب مقيد غير قادر .. قرى بالكامل تموت من الجوع وإذا بي أنا وأخواني نتفاعل كما لو كنا من صميم هذا الشعب وأحسسنا بسياط الظلم كما لو كانت تلهب ظهورنا ولم يكن أمامنا إلا الإرادة وماذا يمكن أن تقدم لهذا الشعب .. إنها فرصة ذهبية وخاصة بعد قرأنا تاريخ اليمن والثورات التي قامت وكيف فشلت وكان الفشل يرجع دائماٍ إلى أنه لا توجد قوة قادرة على أن تبدأ وتستمر .. ووجدنا في بناء قوات يمنية وطنية على أساس سليم وقومي طريق النجاة لهذا الشعب وكانت أول تجربة لنا في فوج البدر الذي أعتبره هو النواة التي تكونت عليها بقية الخلايا الثورية وكان هذا الفوج عبارة عن كتيبة أنشأتها البعثة العسكرية المصرية بتوجيهات من البدر ليكونوا حرساٍ له وكان منها مجموعة من أشرف وأروع ما يمكن أن تقدمه الأمهات العربيات ومنهم عبد الله اللقية وعلي العلفي وحسين سوار والترزي والنهمي وعبدالكريم السكري وكان هؤلاء هم أول مجموعة يتم تدريبها وكان التدريب يتم بعيداٍ عن أعين الإمام الذي كان له جواسيس تربطه بهم شفرة وكنا نركز إلى جانب التدريب على التعريف بنكسة الأمة العربية وآمالها وطموحاتها .
الكلية الحربية
بعد هذه المجموعة وفقنا فى الحصول على مركز تدريب للجنود ثم مدرسة لتدريب الصف ضباط ثم الكلية الحربية , وتمكنا من توفير العناصر الأساسية لبناء أية قوات مسلحة (الجندي والصف ضابط والضباط ,وكانت الكلية الحربية هى الهدف الأساسي لتجميع شباب اليمن من أبناء السادة ومن أبناء المواطنين العاديين والقبائل وخلال فترة بسيطة ذابت الفوارق الاجتماعية بينهم وكانت هذه الدفعة تجربة لنا . وجاءت الدفعة الثانية وعلى رأسها علي عبد المغنى الشهيد رحمه الله. وتحت ستار التدريب قسمنا هذه المجموعة الى مجموعات شبه خلايا وتركنا لهم ولآمالهم وأحلامهم المجال ليعبروا عن أنفسهم وفكرهم وكنا نشجع وبدون تدخل ولو علم الإمام ما كنا نفعله لطرد البعثة ولو علمت مصر بما كنا نفعله لحاكمتنا وأدخلتنا السجن ..
تفاعل عفوي
ويمضي القول : كان تفاعلاٍ مصرياٍ عربياٍ تلقائياٍ مع الشعب اليمني وكانت البعثة العسكرية المصرية الحضانة التى عبرت عن نفسها وقادها علي عبد المغنى إلى 26 سبتمبر, وبالتالي هذه الثورة ليست مدبرة من الخارج ولكنها نبع يمني وطني أصيل ومن يدعي غير ذلك فهو يغالط التاريخ .. كان هناك ثورات سابقة .. كان هناك مشاعر ثورية ولكنها لم تكن تخرج عن حد الكلام .. انها الثورة الوحيدة التي تمت بنظام وتأن خطوة خطوة هي ثورة علي عبد المغني ومجموعته التى شكلها من فوج البدر ومراكزالتدريب ومدرسة الأسلحة ومن زملائه فى الكلية الحربية , وعندما قامت هذه الثورة طلبوا من مصر المساعدة فلم تتأخر ولكن المساعدة لم تكن بالصورة التي يتكلم الناس عنها .. ليس بالصورة التى يعتقد فيها البعض أن مصر قامت بغزو .. ليس بالصورة التى يقول البعض أن أحمد أبوزيد والقائم بالأعمال محمد عبد الواحد هم من ضباط المخابرات الذين دبروا للثورة … هذا الكلام يحمل مغالطة للتاريخ والتاريخ يصحح نفسه بنفسه ..
الثورة نبعت من ابناء اليمن وشباب اليمن .. من مجموعة جديدة ليس لها علاقة سابقة أومتصلة حتى بالثوار السابقين إلا في المراحل الأخيرة من ثورة اليمن وبرز هذا الكلام بعد قيام ثورتهم وأغلبيتهم استشهدوا , ولا أريد أن أسأل أين البقية الباقية منهم اليوم ¿ ..ولكن من حق هؤلاء على كل أبناء اليمن أن يكون لكل واحد منهم صورة وتمثال فى قلب كل مواطن يمني يتوارث جيلاٍ بعد جيل ..
الثورة الوحيدة
الدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية وعميد معهد البحوث والدراسات العربية وصاحب عدد من المؤلفات السياسية القيمة وله رسالة دكتوراه أعدها في مطلع الثمانينيات حول الدور المصري في اليمن ..تحدثت عن ثورة 26 سبتمبر
يقول الدكتور أحمد يوسف : ثورة 26 سبتمبر من الثورات القليلة التي أتيح لها عبر الزمن أن تحدث إنجازات على كافة مستويات الأهداف الاستراتيجية لأي شعب من الشعوب فثورة 26 سبتمبر بدأت بأن أحلت نظاماٍ سياسياٍ جديداٍ يمتلك شرعية واضحة من الشعب اليمني محل نظام لا يمتلك أي شرعية ثم كان لها الفضل في إنجاز مهمة تحرير الشطر الجنوبي من اليمن وأقصد بالإنجاز المساعد في ثورة جنوب اليمن..ثم يأتي بعد ذلك إنجازها للوحدة اليمنية المباركة وبالتالي ثورة 26 سبتمبر وكل هذه الأهداف لازالت موجودة على أرض الواقع .. وهي من الثورات القليلة إن لم تكن الوحيدة التي أتيح لها أن تحقق هذه الإنجازات على صعيد الديمقراطية أو النظام السياسي أو على صعيد التحرر الوطني وعلى صعيد الوحدة العربية أيضاٍ .
وللدكتور احمد عدد من الخواطر في هذا الجانب منها كما يقول :
إن الدور المصري في دعم الثورة اليمنية أكثر من واضح ولا ينكره سوى مكابر ولكن يجب أن يكون واضحاٍ كل الوضوح أنه ما كان لهذا الدور أن ينجح في دعم ثورة 26 سبتمبر مالم تكن هذه الثورة ثورة أصيلة لها قواها الاجتماعية والسياسية الواضحة ..
وهناك قاعدة تاريخية هي أنه لا توجد ثورة في التاريخ تخلق من الخارج وهذا من القوانين العلمية وانه مهما كان التدخل الخارجي لصالح نظام أو لصالح أي ترتيب قوياٍ وضارياٍ فإن هذا النظام يسقط إذا لم تكن له شرعية داخلية ومصر دعمت اليمن دعماٍ قوياٍ أنتهي الأمر بانتصار الثورة اليمنية لسبب بسيط هو أنها ثورة أصيلة.. الشعب اليمني كان لديه أفكاره وتحركاته الثورية منذ أواخر الأربعينيات في القرن الماضي إذاٍ هذه المسألة ينبغي أن تكون واضحة وأن نرد بمنتهي الثقة على أولئك الذين يصورن ثورة اليمن بأنها صنيعة لهذا النظام أو ذاك .
وفي خاطرة أخرى يقول : ذكرني الدور المصري في اليمن بزمن بتنا نحلم به عندما كان الأمن عربيا .. وأن ثورة تقوم في جزء من أجزاء الوطن العربي وتتعرض لمخاطر فلا تطلب الدعم إلا من داخل الوطن العربي وأن تكون هناك قوة عربية قادرة على أن تدعم هذه الثورة ليس فقط بالكلمة أو القرار السياسي وإنما أيضاٍ بالدعم العسكري وأن تنجح هذه المعادلة المكونة من ثورة أصيلة في الداخل ودعم خارجي عربي في أن تحقق في النهاية أهدافها الاستراتيجية .
ويضيف: الثورة اليمنية لم تكن قيمتها يمنية فقط لأنها حدثت بعد عام واحد من الانفصال السوري المصري ونجاح الانقلاب العسكري في سوريا في فصم عرى هذه الوحدة عام 1961 وبالتالي كان هذا الانفصال يشير إلى ان الوحدة العربية والثورة العربية آخذة في الانحسار وكانت هذه هي أول مرة يحدث فيها انكسار حقيقي لموجة الثورة العربية وقد تعرضت قبل ذلك لتحديات خطيرة في منتصف الخمسينيات والعدوان الثلاثي وخرجت منها منتصرة حتى وأن خسرت في بعض المعارك العسكرية لكن المسار العام كان مساراٍ تقدمياٍ يشير إلى الانتصار .
وعندما قامت ثورة اليمن كان بالاضافة إلى مدلولها اليمني يوجد مدلول عربي لا يقل بأي حال من الأحوال إن لم يزد أهمية وهو أن موجة الثورة العربية وإن انتكست بوضوح بسبب الانفصال السوري المصري إلا أنها تتفجر في منطقة من أخطر مناطق الوطن العربي حيث تلاصق أخطر المصالح الاستعمارية المتحالفة مع قوى عربية معينة وبالتالي كان معنى الدعم المصري لثورة اليمن ليس مصرياٍ أو يمنياٍ فقط وإنما كان معناه أن قوى الثورة تتجمع في هجوم مضاد يرد على كارثة الانفصال.
التعجيل بتحرر الجنوب
وفي خاطرة ثالثة يقول لم يقتصر دور ثورة 26 سبتمبر والدعم المصري لها على الشطر الشمالي من اليمن وإنما امتد للتعجيل بمسار حركة التحرر في الشطر الجنوبي من اليمن لأنها كانت قد بدأت بدورها ومعروف النضال السياسي في الخمسينيات منذ المستعمر البريطاني وقبل الخمسينيات أيضاٍ ولكنها كانت حركة سلمية لا تعتمد النضال المسلح وبوجود قاعدة يمكن الركون اليها في شمال اليمن اتخذ مسار التحرر الوطني في الجنوب المسار العسكري بالاضافة الى المسار السياسي وتفجرت المقاومة المسلحة منذ اكتوبر 1963م وحققت أهدافها في زمن قياسي بين حركات التحرر في الوطن العربي ما بين يونيو 63م ونوفمبر 1967م أستطاعت حركة التحرر الوطني في جنوب اليمن أن تكمل مهمتها الاستراتيجية في تحرير الجنوب اليمني وبالتالي كان من الوضوح بمكان أن ثورة 26 سبتمبر وحليفتها مصر قد تمكنتا من التعجيل بحركة التحرر الوطني في جنوب اليمن لكي يكتمل استقلال الجنوب في نوفمبر 1967م وهنا أتوقف برهة لأقول أنه من الأمور ذات الدلالة أن يستقل جنوب اليمن بعد هزيمة يونيو بشهور وكأنها وللمرة الثانية ترد اليمن على نكسة عربية كبرى وأن مسار التحرر لازال موجوداٍ ولازال قادراٍ على مواصلة مسيرته .
ويمضي بالقول : ثورة سبتمبر انتصرت في النهاية وتمكنت من تحقيق أهدافها وانتصرت بعد أن واجهت حصار السبعين يوماٍ وأنا اتحدث عن هذا التوقيت تحديداٍ لأن الثورة انتصرت في غيبة الوجود العسكري المصري وهذه هي المعادلة الصحيحة لأن الوجود المصري كان موجوداٍ ليشد أزر الثورة في فترة واجهت فيها خصومه من الخارج على أكبر مستوى من الضراوة ولكن هذا لم يكن يعني الاتكال والركون على الدعم الخارجي وإنما جنباٍ إلى جنب كانت هناك عملية بناء حقيقي لقوى الثورة سياسياٍ وعسكرياٍ بدليل أن الثورة صمدت في حصار السبعين في غياب القوات المصرية وكان معنى هذا أن الثورة قد بلغت سن الرشد وأنها قادرة على مواصلة الطريق وأنا قرأت ماكتبه بعض المقربين من عبد الناصر أنه كان لا ينام ليلاٍ أيام حصار السعين لأنه بمسئوليته كقائد تاريخي كان يشعر بالخوف من أن الثورة اليمنية لم تصل إلى سن الرشد الذي يمكنها من البقاء والصمود وأن فرصته كانت عظيمة عندما تمكنت هذه الثورة بقواها الذاتية من مواصلة الدور الذي بدأته في عام 1962 والذي رافقته فيها القوات المصرية كي تدعمها ضد خصومها الخارجين .
ويرى أن الدعم المصري للثورة اليمنية أنتهي بهزيمة يونيو 1967م ولذلك فإنه من ضمن المقولات الخاطئة أيضاٍ أن الوجود العسكري المصري في اليمن هو سبب هذه الهزيمة والحقيقة أنه – وقد يكون هذا مثار لنقاش طويل لا نملك الوقت الآن للحديث فيه – ولكن رأي الشخصي أن النجاح في دعم ثورة اليمن ربما كان سبباٍ معجلاٍ بالعدوان لأن المسألة أصبحت كالتالي : ثورة متنامية في شمال اليمن حركة تحرر وطني تكاد أن تنجز أهدافها في جنوب اليمن وزارة الدفاع البريطانية تعلن صراحة في فبراير 1966 أنها ستنسحب من الجنوب بحلول عام 1968 دون أن تحتفظ بقاعدة عسكرية في عدن .. أصبح التصور الغربي أنه مع نهاية عام 1967م ستكون الثورة في الشمال وطيدة الأركان وسيكون الجنوب متحرراٍ وهناك احتمال قوي في وحدة الشمال والجنوب في ظل وجود قوات مصرية كان في تصورهم أنها ستترك اليمن وستتوغل في منطقة الخليج حيث أخطر المصالح الاستراتيجية الغربية ولذلك كان لابد من وضع نهاية لتجربة الثورة العربية قبل نهاية عام 1967م ومن هنا جاء العدوان في 1967م وللاسف كانت هناك الهزيمة البعض قال بأن الوجود العسكري المصري في اليمن هو سبب الهزيمة .. أنا رأي الشخصي أن أسباب الهزيمة في 1967م كانت أسباباٍ دنيوية وأعمق بكثير من وجود قوات عسكرية مصرية جزئية في اليمن خاصة واننا نعلم أن القوات التي ذهبت إلى اليمن قد أستيعض بدلاٍ عنها بوحدات عسكرية مصرية تم انشاؤها بعد ذلك .
وأنا أرجح أن نجاح الثورة في الشمال بدعم مصري ونجاح حركة التحرر في الجنوب كانا سبيين مهمين في التعجيل بالعدوان على مصر والدول العربية في عام 1967م
فسلام على بناة الثورة وحماتها وشهدائها وتحية اجلال لقائد عربي تاريخي شاءت الظروف أن يكون في موقع المسئولية عندما تفجرت ثورة 26 سبتمبر فلم يتردد في الأخذ بيدها حتى نأمن شرور التدخل الخارجي وشاءت الظروف أيضاٍ أن ذكرى رحيله تحل يوم لقائنا هذا فمن غياهب الظلمة العربية الراهنة نتوقف عند هذه الذكرى محاولين ان نستلهم معانيها علها تساعدنا على الخروج من النفق المظلم إلى الآفاق الرحبة لمستقبل مشرق يصنعه في هذه اللحظات نفر من ابناء الأمة أبوا إلا أن يشهروا سيف المقاومة في وجه محاولات الهيمنة.
إذاعة تعز والبردوني
محمد الخولي أحد رواد صوت العرب ومؤسس إذاعة تعز وعمل مستشاراٍ بالأمم المتحدة لمدة عشرين عاماٍ يقول : عندما قامت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م كنا شباباٍ خريجين من الجامعات يحدونا الحلم الكبير الذي أشعله في نفوسنا ونفوس هذه الأمة الزعيم جمال عبد الناصر ولكن أخطر ما فيها هذه الثورة من ناحية التوقيت أنها جاءت لتحدث إنجازين عميقين في مسار الأمة العربية الأول أنها أعادت إلى جمال عبد الناصر الثقة في ما كان يدعو إليه في القومية العربية وقد تلقي كما تعلمون طعنة الانكسار السوري المصري الذي أطاح بحلم الوحدة الذي كان قد تجسد في الجمهورية العربية المتحدة في 28 سبتمبر 1961 ويشاء الله أن يفرح قلبه الطيب قبل أن تحل ذكرى الانكسار بيومين وترد إليه أخبار إندلاع الثورة اليمنية في صنعاء .
أما الانجاز الآخر فإن هذه الثقة قد جعلت صنعاء في التاريخ العربي المعاصر تقف مع عاصمة عربية أخرى هي الخرطوم لأن الخرطوم أيضاٍ أعادت الثقة إلى نفس عبد الناصر في أغسطس عام 1967 في أوج وعنفوان النكسة الكبرى وذلك عندما أصدرت اللاءات المشهورة المعروفة وقام الشعب العربي في السودان بمظاهرات عارمة جعلت العالم كله يستغرب ويتساءل ما الذي حدث لهذه الأمة أي كيمياء فريدة غريبة تعتمل بين جوانحها وحينها كتبت مجلة النيورزويك ( هذا رجل غريب وامة غريبة هو مهزوم ولكنه تعامل كمنتصر) ولم تكن تعلم أن هذه الأمة لها مقاييس خاصة في الحكم على معنى الهزيمة ومعنى الانتصار . هذا هو فضل صنعاء عندما قامت الثورة وأعظم ما في ثورة 26 سبتمبر عندما تقارنها بالثورات العربية سنجد أن التحديات التي كانت تواجهها هي الأعنف والأشرس حتى من ثورة عبد الناصر نفسها نحن هنا لا نقول ما هو الأفضل ولكننا نحاول أن نكيف في تحليلنا للواقع معطيات الواقع .
الثورة اليمنية لم يكن أمامها هذا الترف في الاصلاح وإنما كان ينبغي أن تغير البناء التحتي نفسه لمجتمع اليمن في تلك الفترة من القرون الوسطى حتى بدايات القرن العشرين ولذلك حدث لنا نوع من التفكير الغريب في صوت العرب وتساءلنا ما الذي يمكن لنا أن نفعله في صوت العرب ¿ كنا مجموعة من الشباب من الجيل الثاني او الثالث عندما كانت صوت العرب في مجدها في رعاية المؤسس القدير الأستاذ أحمد سعيد وشهد هذا الجيل طعنة الأنكسار ثم أعقبتها أحداث الثورة اليمنية وتم ابتعاث خمسة من شباب المذيعين معظمنا من القاهرة ولم نخرج خارج مصر على الإطلاق ووجدنا أنفسنا نمد أيدينا مع إخواننا في إذاعة صنعاء لكي نعبر عن مرحلة فوران وثورة جديدة فتية في اليمن أمامها تحديات .. تحدي نداء اليمن في الشمال وتحدي الاستعمار الانجليزي في الجنوب وتعلمون أن عدن هي أول موقع استعماري انجليزي وكان ذلك في عام 1839م ولم يسبقها إلا استعمار الجزائر عام 1830 ..
كنا شباباٍ يفتقر إلى التجربة ولكنه يمتلك الحلم وإرداة العمل وكنا مدنيين لا نعرف كيف نمسك السلاح ولكننا كنا مندفعين ومتحمسين لكي نبلور الواجب أمامنا .
في أواخر عام 1964 جاءني اللواء حسن همت ومعه برقية من السيد أنور السادات وكان حينها مسئولا عن ملف اليمن يقول صدر أمر الرئيس جمال عبد الناصر بأن تبدأ إذاعة تعز في العمل ابتداء من يوم 9 يناير 1965 ولمدة 9 ساعات يومياٍ .. وترك لي الورقة وذهب .. ما الذي يستطيع أن يفعله شاب أمام هذه المهمة .. حاولت أن أأخذ معي من صنعاء بعض المواد الإذاعية فرفض مدير الأذاعة وقال مادام لديكم إذاعة هناك روح افتحها وشغلها .. ذهبت إلى تعز وقابلني المهندس حسن رستم وأخبرته بأنني أتيت لتشغيل إذاعة تعز فقال لي لا توجد إذاعة اسمها تعز .. وبالفعل لم يكن هناك سوى ورقة بيدي اسمها إذاعة تعز ومحطة ارسال يتم من خلالها نقل مواد من صوت العرب وإعادة بثها .
اتخذت قراراٍ بأن عبد الناصر لا يمكن أن يقول بأن إذاعة تعز تعمل ولا ينفذ ذلك .. إذ كيف نحصل على مواد فأخذني حسن رستم إلى المدينة ووصلنا إلى محل اسمه (شايف إخوان ) وقلنا له بأن إذاعة تعز سوف تعمل ونحتاج إلى اجهزة تسجيل واشرطة وأغاني .. الرجل استغرب ولكنه تحمس معنا وأعطانا ذلك كله مجاناٍ .. وبدأنا نعمل من دار الضيافة حيث كنت أقيم وكنا نسجل ساعة كاملة وهذه الساعة فيها ما يطلبه المستعمون وكنا نأتي بالأسماء من الشباب العاملين في دار الضيافة يأتون باسماء أقاربهم وأصحابهم ونقدمها مع التهاني وكان هناك قرآن وحديث وتعليم اذاعي ممتاز جداٍ لدرجة أن اذاعات الجنوب التي كانت تحت الاحتلال الانجليزي في تلك الفترة كانت تتصور أن هناك كتيبة كاملة من المذيعين المصريين يعملون في استوديوهات ولم يكونوا يعلمون أنه فرد واحد يقيم ويعمل في دار الضيافة ومرتبه 3 ساغ وكنا نسجل الشريط ثم نذهب إلى منطقة اسمها الجند عبر طرق كانت ملغمة على سيارة نقل ونسرق دقات ساعة إذاعة صوت العرب وقبل أن يقول المذيع هنا إذاعة صوت العرب نقفل الصوت ونقول إذاعة الجمهورية العربية اليمنية من تعز .
أنا أقول هذا الكلام لأنني عشته بالصدفه وكان يمكن أن يعيشه غيري وبالتأكيد فإن غيري وهم كثير عاشوا أكثر منه وصنعوا أمجاداٍ أعظم منها بكثير ولكن المسألة هي الصدفة التاريخية التي تجعل الإنسان على موعد مع قدر ما وتجعله ينجز إنجازاٍ أكثر من غيره هذا الآنجاز لأنه لازال باقياٍ ولأنه من انسان عربي من مصر عبر البحر الأحمر في ظروف بالغة القسوة ولم يكن يريد شيئاٍ سوى أن يحقق ذاته من خلال الآخرين فما بالك عندما يكون هؤلاء الآخرون إخوة وجزءاٍ من أمة كما علمنا عبد الناصر وما أعظم ما علمنا أنها أمة عربية قد تثخن بالجراح ولكنها تستطيع أن ترتفع فوق جراحها لكي تواصل مسيرتها …
و أذكر على سبيل المثال زيارتي الأسبوعية للشاعر الكبير عبد الله البردوني رحمه الله الذي كنت أختلف اليه بعد صلاة الجمعة في بيته بسوق الملح وأأخذ قلما ويملي علي ديوانه الثاني ( في طريق الفجر ) وأذكر من ابياته الكافيه القصيرة الخطيرة قصيدة خاطب فيها الإمام بعد أن خرج من السجن وكان يدخل ويخرج ولازلت أذكرها..
لماذا لي الجوع والقصف لك
يناشدني الجوع أن أسألك
وأغرس حقلي فتجنيه أنت /
وتسكر من عرقي منجلك /
لماذا وفي قبضتيك الكنوز
تمد إلى لقمتي أنملك
وتقتات جوعي وتدعى النزيه /
وهل أصبح اللص يوماٍ ملك ¿/
لماذا تسود على شقوتي ¿ /
أجب عن سؤالي وإن أخجلك
.. قصيدة خطيرة جداٍ تجعل دم العروبة يجري في عروق الشاب الذي كان يجلس أمام عبد الله البردوني يكتب قصائده ..