د . عكرمة صبري –
إن الأثرة (بهمزة واحدة) هي الاستئثار بالشيء¡ أي خصø به نفسه¡ وهي ترادف كلمة “الأنانية” بالمصطلح الحديث¡ وهي صفة سلبية غير محمودة في الإنسان إذا اتصف بها¡ ويمكن القول: إن الأثرة تنتشر في المجتمعات المتخلفة والهابطة والضعيفة¡ ولها عدة صور وأشكال غير مرغوب فيها .
إن صفة الأثرة تظهر في الأفراد (أي على مستوى الأفراد) كما تظهر هذه الصفة الذميمة في شخص الحاكم أو في شخصه مع بطانته (المجموعة المحيطة به) بحيث تدور الحياة في البلاد حول الحاكم فقط¡ بينما الشعب كله مهمش أو بمنزلة العبيد .
وآثر (بالمد أي بهمزتين) إيثارا◌ٍ أي فضøل غيره على نفسه¡ وهذا المعنى هو عكس الأثرة (الأنانية) . فإن زيادة حرف الهمزة قد قلبت المعنى من صفة سلبية إلى صفة إيجابية¡ والله سبحانه وتعالى يقول: “و◌ِي◌ْؤúثöر◌ْون◌ِ ع◌ِل◌ِى أ◌ِنúف◌ْسöهöمú و◌ِل◌ِوú ك◌ِان◌ِ بöهöمú خ◌ِص◌ِاص◌ِة◌َ و◌ِم◌ِنú ي◌ْوق◌ِ ش◌ْح◌ِø ن◌ِفúسöهö ف◌ِأ◌ْول◌ِئöك◌ِ ه◌ْم◌ْ الúم◌ْفúلöح◌ْون”¡ (سورة الحشر: الآية 9) . وهذه الآية الكريمة مدنية¡ وفيها مدح للأنصار من الأوس والخزرج (أهل المدينة المنورة) رضي الله عنهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد جاء ديننا الإسلامي العظيم هادما◌ٍ للأنانية وللجاهلية¡ مشجعا◌ٍ على فعل الخير وعلى الإيثار وعلى نكران الذات في سبيل نفع المجتمع والمصلحة العامة¡ وأن سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم- وسيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم- حافلة بآلاف المواقف المشرقة بالتضحيات وحب الخير والإيثار . وانتشر الإسلام بهذه الروح السامية الخيرة الإنسانية فأنكر على الأكاسرة ملوك الفرس وعلى القياصرة ملوك الروم لاتباعهم نهج “الأنا” والظلم حتى زال ملكهم وتهاوت عروشهم¡ فلا مجال في الإسلام لأي نوع من أنواع الأنانية (الأثرة) سواء كانت هذه الأنانية من قبل فرد أو حاكم أو عائلة أو طائفة أو حزب من الأحزاب .
كلما ازداد إيمان المسلم أحب الخير لغيره وسما إيثاره¡ وأذكر في هذا المقام نموذجين اثنين:
النموذج الأول: الإيثار الإيماني الذي اتصف به الصحابي الجليل الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه ورضي الله عنه – حين نام في فراش الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليلة الهجرة النبوية وبذلك ضرب علي بن أبي طالب بذلك أروع نموذج للتضحية والفداء حيث كان مستعدا◌ٍ لأن يجود بنفسه فداء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-¡ والجود بالنفس أقصى غاية الجود¡ وعرف علي بأنه أول فدائي في الإسلام .
النموذج الثاني: في معركة اليرموك (15ه/ 636م) “أتى ساقي الماء عددا من الجرحى فكان أول من أتى الصحابي عكرمة بن أبي جهل ليسقيه فأشار إلى الساقي ليتوجه إلى الصحابي سهل بن عمرو الذي أشار إلى الساقي ليتوجه إلى جريح ثالث هو الصحابي الحارث بن هشام . فلما وصل الساقي اليه وجده قد فارق الحياة وأسلم روحه لبارئها شهيدا◌ٍ . وحين عاد إلى الثاني وجده كذلك شهيدا◌ٍ . حتى وصل إلى الأول فوجده كذلك أيضا◌ٍ شهيدا◌ٍ . وكل منهم كان يؤثر الآخر على نفسه بشربة الماء . فارتقت أرواحهم إلى السماء عند بارئها قبل أن يشربوا الماء -رضي الله عنهم أجمعين- . فمر بهم الصحابي القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقال بنفسي أنتم” .
هكذا كان المسلمون يتعاملون مع بعضهم بعضا◌ٍ¡ فأين المسلمون في هذه الأيام من الايثار وحبø الخير¿!