
المكلوم/ توفيق الحرازي –
رحل الأشموري عبدالكريم.. الفنان الملتزم والممثل المثقف والمثقف السياسي نجم التمثيليات الإذاعية وصاحب الفكاهة الهادفة والإضافة النوعية ومجدد الدراما التلفزيونية الضاحكة!!
رحل القلب النابض بالحب والعمل والإبداع والتجديد الفكاهي.. غادر في عنفوان الشباب ودون سابق إنذار ليترك ثقبا في كل قلب.. وأجساداٍ تسمرت من هول الصدمة.. وأعيناٍ تسحْ دمعاٍ على رحيل مبكر لم يئن أوانه وفراق لم يتوقعه أحد.. وألسنة خرساء عاجزة عن قول شيء- سوى “لا حول ولا قوة إلا بالله- إنا لله وإنا إليه راجعون!!
كان صحيحاٍ معافى لم يكن ثمة ما يدعو للقلق على صحته مطلقا.. لكنها الأقدار- التي لا رادِ لسهامها- أبت إلا أن يغادر منتصباٍ كالنخيل- وهو في ميدان العمل وفي ذروة العطاء والصحة والتفكير والكتابة والتمثيل معاٍ!!
حين صْعقنا بنبأ إغماءته المفاجئة فجر الخميس قبل الماضي لم نكن نصدق أنه سيدخل في غيبوبة متواصلة توقفت معها كل أجهزة الحياة لديه دفعة واحدة المخ والقلب والكلى.. وأبقته أسبوعاٍ كاملاٍ- دون لحظة إفاقة- مكمماٍ بجهاز تنفس صناعي يتنفس نيابةٍ عن صاحبنا!!
قد تتقبل النفس البشرية وفاة عزيز عليها إذا كان يصارع مرضا عضالاٍ أو تعرض لكارثة طبيعية أو حادث جلل حينها قد تراودك قناعة بأن موته أرحم فيهون عليك رحيله!
لكن من الصعب أن تستوعب رحيلا بلا مقدمات لمبدع يبدو بكامل قواه الذهنية والجسدية يأتيك نبأ انطفائه فجأة حينها يصبح الرحيل صاعقاٍ- ويحتاج لرحمة سماوية تخفف الصدمة رأفةٍٍ بأهله ومحبيه..
مؤكد أن ثمة رحمة إلِهية وراء دخوله في غيبوبة طويلة كهذه أجلت رحيله ربما كي نجد فرصة لرؤيته والدعاء له في هذه الأيام المباركة فرصة كي نمني النفس بأمل الشفاء حتى يتضاءل رويداٍ فنتقبل الصدمة فرصة لالتقاط الأنفاس وامتصاص الفاجعة والاستعداد لتقبل الرحيل المبكر.. لهذا كانت الغيبوبة مقدمة قدرية ورحمة إلهية اكتملت هذه الرحمة بأن اختاره الله في أقدس أيامه- شهر الرحمة.. دخل الغيبوبة في يوم خميس بساعات الفجر ثم غادر بعد أسبوع لكن يوم خميس أيضا وساعة الفجر كأنما الأقدار أجلت رحيله لكنها لم تؤجل ساعته!
رحمة الله على صديقي عبدالكريم الذي لم استوعب صدمة رحيله حتى اللحظة.. كان نجماٍ استثنائياٍ.. إذ من النادر جداٍ أن تجد من يحترف التأليف والسيناريو بجانب التمثيل ويشارك المؤلف والمخرج رؤيتهما.. على شاكلة السوري يوسف العظمة والمصري محمد صبحي وسابقاٍ دريد لحام ونهاد قلعي وآخرين قلائل!! فعبء التمثيل لا يحتمل عبئاٍ آخر بجانبه إلا إذا كان فنانا بحجم “ابن الأشموري”!!
رغم أنه من جيل رواد المسرح الوطني بصنعاء- نبيل حزام ويحيى ابراهيم والمرحومة مديحة الحيدري وزملائهم إلا أنه كان أصغرهم وآخر الملتحقين بجيلهم في بداية الثمانينيات وهو وإن كان الأخير زمانه إلا أنه أتى بما لم تستطعه الأوائلْ.. فقد تفوق على سابقيه دون جدال!
ربما لم تتسن له فرصة إبراز مواهبه آنذاك لأسباب عديدة أهمها شحة أعمال المسرح والدراما وموسمية نشاطهما لكنه مع منتصف التسعينيات وبداية الألفية بزغ نجمه تلفزيونياٍ كما لم يبزغ من قبل إذ قدم مع زملائه روائع عديدة يتذكرها الكثيرون إلى اليوم لعل أبرزها (كيني ميني) الذي يْنسب إليه الفضل في تأليفه وإبرازه بذلك المستوى الراقي من الفكاهة الهادفة لثلاث سنوات متتالية.. وفيلم (الرهان الخاسر)..
ربما اكتمل نجاحه في (كيني) بوجود المبدعين الحبيشي والعلفي وإمكانيات قناة السعيدة لكن لا أعتقد أن هذا العمل كان سيصبح علامة فارقة في الدراما الرمضانية لو لم يكن الاشموري مبدعه الأول والرهان الرابح فيه.. ساعده في ذلك خياله الفكاهي الخصب بجانب امتلاكه ثقافة اجتماعية وسياسية واسعة ورؤية فنية جديدة مكنته من الارتقاء بالدراما الرمضانية وتجديد شكلها التقليدي السطحي الذي كان سائداٍ ردحاٍ من الزمن- مع تقديرنا لبعض الأعمال الجيدة.
تلك الثقافة الأشمورية أعرفها جيداٍ وعايشتها عن قرب فمثل هذا الفنان حين تعرض عليه نصاٍ تراه يضيف لمسات وتعديلات لا تملك إلا أن تحترمها وتحني لها القبعات لأنه يقرأك سريعا ويعرف ماتريد فيضيف الكثير لتشعر أنك بجانب “أستاذ” يحترم ظهوره للجمهور.. وبالمقابل لم يكن ممن يصر على رأيه أو يعترض لمجرد الاعتراض ولا كان من هواة الخروج عن النص بل حين تعجبه فكرتك ونصك لا يتردد في إبداء إعجابه فوراٍ والالتزام به حرفياٍ بل وتمثيله باحتراف لكنه يختلق حركات و”إفيهات” وأسلوب أداء يْظهر النص بأجمل مما تتوقع!
لم يكن الاشموري يمثل الأدوار الفكاهية قبل كيني ميني.. كانت أدواره جادة سابقا كما في الثأر والوصية وغيرهما لهذا لم يبرز تلفزيونيا كما برز في الإذاعة فكاهيا من الطراز النادر!
سألته ذات مرة: “لديك قدرة فكاهية مدهشة في الإذاعة لماذا لا تظهرها تلفزيونيا¿ فأجاب أنه يكتفي بالأدوار الفكاهية للإذاعة ويخصص الشاشة للأدوار الجادة فقط كي لا تتشابه شخصياته!
وفعلا كان نجم إذاعة صنعاء في رمضان ويكاد يكون أشهر ممثليها لسنوات طويلة- بجانب نبيل حزام والمرحومة مديحة الحيدري ويحيى ابراهيم وجمال وخليل وفؤاد والبقية.. فقد كان المخرج الاذاعي الشهير/ المرحوم عبدالرحمن عبسي- يثق بقدراته التجسيدية دون منازع.. لهذا لم يكن يمر رمضان دون حضور الأشموري كنجم أول للكوميديا الهادفة- بجانب الأدوار الجادة.. والملفت أنه كان يتجدد من عام لآخر حتى اعتقد الكثيرون أن روحه الفكاهية لا تتناسب إلا مع الإذاعة!
أما حين ظهرت فكرة (كيني ميني) فوجئ الجمهور بفكاهة تلفزيونية راقية ونقلة نوعية للظرافة الرمضانية شدت إليها الجمهور من أول حلقة وجعلتهم ينتظرونها يوميا ويترقبونها في كل رمضان بفارغ الصبر.. كان من الملفت أن يكون وراءها نجم الفكاهة الإذاعية!
ما حين ظهرت فكرة (كيني ميني) فوجئ الجمهور بفكاهة تلفزيونية راقية ونقلة نوعية للظرافة الرمضانية شدت إليها الجمهور من أول حلقة وجعلتهم ينتظرونها يوميا ويترقبونها في كل رمضان بفارغ الصبر.. كان من الملفت أن يكون وراءها نجم الفكاهة الإذاعية!
ولأنه فنان بالسليقة ويحترم توزيع الأدوار لم يكن يحتفظ لنفسه ببطولة الأدوار الفكاهية ولا يشتت طاقته في أعمال أخرى بل كان يتفرغ لكيني ويسند معظم الأدوار الجميلة لغيره- كعادل سمنان وآخرين ويحتفظ لنفسه بأدوار جديدة يتنوع في تقمصها من وقت لآخر حتى لا يستهلك طاقته الفكاهية فيمله الناس وتلك ميزة الأشموري دونا عن غيره ممن يؤلفون أعمالهم ويحتفظون بالبطولة المطلقة!
هذا العمل كان سببا في ارتفاع نسبة الإعلانات بدرجة غير مسبوقة منذ الجزء الأول في قناة اليمن قبل أن تحتكره قناة السعيدة فور إنشائها.. بل وزاد الإقبال على إنتاج أعمال مشابهة!! إذ بدأت السعيدة واليمن وعدن تتلقى محاولات كثيرة غير أن الحظ لم يحالف أياٍ منها كما حالف نسخة الأشموري الأصلية.. وبانتقاله لقناة اخرى خسرت قناة اليمن وربحت السعيدة!! ثم لم تلبث السعيدة أن خسرت هي الأخرى حين قصمت ظهر الطاقم الذي تناثر بين قناتين متضادتين لهذا اضطرت لإيجاد أعمال بديلة بعد أن فشل استمرار أجزاء “كيني” دون أعمدته الرئيسية!!
رحم الله ابن الاشموري.. صاحب الظهور المميز دون تراجع والعمل المتواصل حتى لحظة رحيله المباغتة وصاحب الشعبية الكبيرة التي لم يكن يتخيلها أحد إلى أن كشفتها جنازته المهيبة… غير المسبوقة!.