لا زلنا بحاجة إلى معرفة تاريخنا المعاصر وقراءة تاريخ الحركة الوطنية لنتعرف إلى جهود ونضالات أبطالها الذين ضحوا بأرواحهم فداءٍ لهذا الوطن ولإحداث التغيير والتنوير والتحديث داخل المجتمع ليلحق بالمدنية الحديثة ويواكب المجتمعات المتحضرة.
وبالرغم من أن المكتبة اليمنية تحتوي على عدد من المؤلفات والمذكرات التي سطرها أصحابها ممن عاشوا فترات هامة في تاريخ بلادنا المعاصر إلا أننا بحاجة إلى الكثير من الإصدارات التاريخية والمؤلفات والمذكرات والدراسات لنتعرف أكثر ونصل إلى الحقيقة التي يطلبها القارئ اليمني لتكون له ضياءٍ في حياته وتنير له دربه ويواصل هذه المسيرة التي بدأها المثقفون والعلماء والسياسيون والوطنيون منذ العقود الأولى للقرن العشرين.
ومن أهم المؤلفات التي رْفدِت بها المكتبات اليمنية في السنوات الأخيرة هي مذكرات القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني رئيس المجلس الجمهوري في الجمهورية العربية اليمنية والذي شغل هذا المنصب في أحلك الفترات التاريخية التي عاشتها بلادنا كما عاش الرجل في أهم الفترات التاريخية في تاريخنا المعاصر وكان له الدور البارز والمشاركة الفعالة في صنع أحداثها وتطوراتها وكابد الكثير من المشاق والصعوبات مع رفاق دربه وذلك في مرحلة ما قبل الثورة الخالدة الـ26 من سبتمبر 1962م وناضلوا من أجلها حتى تحققت ولم يقفوا عند ذلك التاريخ بل واصل نضالاته ومشاركته في الحياة السياسية وفي الدفع بالحركة الوطنية إلى الأمام وتثبيت النظام الجمهوري بعد الثورة والوقوف بحزم وصرامة أمام المخاطر والتحديات التي واجهت الثورة المباركة لسنوات حتى استقرت الأوضاع.
الكتاب الأوفى والأشمل
وكتاب مذكرات القاضي الإرياني يعتبر من أوفى وأشمل ما صدر عن الحركة الوطنية اليمنية وعما قامت به من الأعمال النضالية المجيدة وما فجرته من الثورات والانتفاضات الثورية حتى قيام الثورة وإعلام النظام الجمهوري في اليمن وما عانته بعد ذلك حتى تحقيق النصر النهائي والحاسم للبدء ببناء الدولة الحديثة وعلى الرغم من الكتابات الكثيرة التي تعرض لها الكتاب وعرضه في مختلف وسائل الإعلام المختلفة إلا أن الحاجة ماسة لعرضه وقراءته مرات ومرات كثيرة خاصة في هذه المرحلة الراهنة التي تعيشها بلادنا وذلك لثراء مادته الفكرية والتاريخية والتوثيقية لأهم مراحل الحركة الوطنية في بلادنا من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى السبعينيات منه.
وقدم للكتاب الأستاذ مطهر علي الإرياني الذي قدم لمحة موجزة عن تاريخ الحركة الوطنية في اليمن من عقود القرن الثالث الهجري وأوضح أن الساحة اليمنية قد شهدت أنواعاٍ من أنظمة الحكم فانتقلت من حكم الولاة إلى حكم دولة بني زياد وبني يعفر والدولة الصليحية والدولة الرسولية ودولة آل طاهر ودولة الأئمة الزيدية وكان ذلك يدخل ضمن الصراع على السلطة واستخدام الدين من أجل ذلك
لمحة تاريخية
والكتاب يأتي في جزأين حيث يشمل الجزء الأولى الفترة منذ مولد القاضي الإرياني ونشأته في العام 1910م وحتى قيام الثورة الخالدة 26 سبتمبر 1962م ويحتوي هذا الجزء على تسعة عشر فصلاٍ بدأ الفصل الأول بإعطاء لمحة تاريخية عن اليمن تحدث خلالها عن الأطماع الأجنبية نتيجة موقعها المتميز في جنوب الجزيرة العربية وعلى أهم منافذ التجارة العالمية وهو باب المندب وما شهدته من غزو أجنبي لم يدم طويلاٍ خلال الفترات التاريخية المتعاقبة فكان اليمنيون لهم بالمرصاد يثورون ضدهم ويقاتلونهم.
وأشار إلى أن اليمن هي أول العرب مناهضة للاستعمار الأجنبي كما تطرق إلى وضع السلطنات والمحميات التي سعى الاستعمار البريطاني إلى توطيدها والاستفادة من وجودها حتى كانت اليمن في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي تعاني من فوضى عامرة فإلى جانب الحكومة العثمانية التي كانت في حرب دائمة مع اليمنيين كانت الثورات تنشب هنا وهناك وكان يوجد فريق من الأئمة الذي قام كل واحد منهم في جهة يدعو إلى نفسه ويلتف حوله فريق من الطامعين وكان كل منهم يقاتل في جبهات معارضيه ويقاتل العثمانيين من جهة أخرى وكان آخرهم الإمام الهادي شرف الدين الذي أوصى اتباعه قبل وفاته في العام 1890م بمبايعة محمد بن يحيى حميد الدين أحد علماء صنعاء الذي خرج من صنعاء إلى الأهنوم وإعلان الدعوة من هناك وبعد وفاته في العام 1904م بايعت القبائل ابنه الإمام المتوكل يحيى الذي نازل الأتراك حتى العام 1911م حيث تم الاعتراف به من قبل الاتراك ووقعوا معه اتفاقية دعان حتى دخوله صنعاء في العام 1918م وإنشاء الدولة الجديدة.
مولد ونشأة القاضي الإرياني
ويطالعنا في الفصول التالية مولد ونشأة القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني حيث ولد في 10 يونيو 1910م في هجرة إريان التابعة لمديرية القفر في محافظة إب وإلى إريان تنسب أسرة آل الإرياني وهي أسرة عريقة في العلم والأدب نبغ منها علماء وشعراء وتولى بعض أبنائه القضاء والإدارة ومناصب الوزارة في فترات تاريخية مختلفة فيما انقطع آخرون للتدريس والافتاء والإرشاد.
حفظ القاضي القرآن الكريم ومبادئ النحو والفقه والحديث على يد والده وأخيه الأكبر ثم التحق بالمدرسة العلمية بصنعاء إبان افتتاحها في العام 1925م تلقى مختلف العلوم في النحو والبيان والأصول والحديث والفقه وتخرج منها في العام 1929م.
ووالده كان أبرز علماء عصره وأوسعهم فكراٍ وأكثرهم اضطلاعاٍ بشتى العلوم وتقلد عدداٍ من المناصب منها توليه قضاء إب وكان من القلائل الذين ألموا بمختلف العلوم وكان إلى ذلك يتمتع بحرية الفكر والميل إلى العمل بالكتاب والسنة.
واستعرض القاضي الإرياني الأحداث التاريخية الحاصلة خلال فترة شبابه منها المعاهدة التي وقعها الإمام يحيى مع إيطاليا ووصول الطائرات إلى اليمن والحرب مع الانجليز في العام 1928م.
بدايات النشاط السياسي
يرصد القاضي الإرياني من بداية الفصل الرابع بداياته للنشاط السياسي حيث كان للبيئة التي عاش فيها والتي كانت بيئة متحررة مذهبياٍ تنظر إلى الإمام كسلطة زمنية وليس كسلطة دينية مقدسة الدافع لخوضه غمار النشاط السياسي وساعده في ذلك أيضاٍ نشأته في إطار أسرته التي كان لها تاريخ طويل في مجال المصارحة للحكام ونقدهم وتبيان الأخطاء وإظهار ما يعانيه الناس من الجور والظلم والصراحة كما أن من الدوافع أيضاٍ ما كان يعانيه الشعب من الظلم والإذلال فكان لابد من المضي في التغيير خاصة بعد الاطلاع على مؤلفات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والسيد رشيد رضا والكواكبي فقد توسعت مداركه وغيره من الوطنيين وانتقلت المطالب من إيقاف الظلم إلى المطالبة بالحرية والدستور والشورى وبناء المدارس والمستشفيات ومحاربة الفقر والمرض.
وأثناء دراسته في صنعاء يقول القاضي: كنت أشارك في نقد الأوضاع العامة والتدليل على ما فيه من مآخذ كلما التقينا في المقابل وفي أوائل العام 1932م بدأت بالتعاون مع الأخ القاضي أحمد المعلمي في العمل الوطني ولكن بحذر شديد واقتصر عملنا على مراقبة المجريات وتحرير المنشورات وبثها في المساجد والطرقات كلما حدث ما تنتقد به الدولة وقد شجعنا على ذلك ما كنا نسمع صدى هذه المنشورات وتخافت المواطنين في الحديث عنها وتكهنهم فيمن يكون وراءها.
وعلى الرغم من عمله في مجال القضاء بعد تعيينه في العام 1926 حاكماٍ شرعياٍ لقضاء النادرة إلا أن اهتماماته الوطنية ازدادت خاصة بعد أن شاهد بأم عينيه الظلم الذي يعانيه المواطن وكذلك نقده لأمر الإمام الذي أوجب اعتماد مقدار الزكاة بأفضل السنين السابقة وتم إجبار المواطنين على الإقرار بها بدلاٍ من أن يكون تقريرها بأمانة المزكي أو حتى بتقدير الخراص على ما فيه من ظلم.
الانخراط في العمل السياسي المنظم
ونقلنا القاضي إلى الحديث عن انخراطه في العمل السياسي المنظم حيث أصبح أكثر اندفاعاٍ في العمل السياسي بعد وفاة والده ونتيجة للمآسي التي كانت تْشاهد فشارك في العام 1944م في إنشاء (جمعية الإصلاح) مع زملائه الشاعر محمد أحمد صبره والقاضي عبدالكريم العنسي وغيرهم وتم وضع نظام وبرنامج عمل للجمعية وانضم إليها الكثير من الأعضاء من مناطق مختلفة وتم الاتصال بالمناضلين الزبيري والنعمان في عدن وبدأ نشاط الجمعية بنشر المنشورات وضم المزيد من الأعضاء من مختلف شرائح المجتمع.
وبعد اعتقال عدد من أعضاء الجمعية في نوفمبر 1944م ترقب القاضي دوره في الاعتقال وقد كان في “إريان” وتم ارسال ثلاثين جندياٍ مع قائدهم الأعور لاعتقال القاضي ولكنه خرج متجهاٍ إلى صنعاء فتم اعتقاله في مدينة معبر وإرساله إلى تعز ومن هناك تم ارساله إلى سجن حجة حيث ظل فيه حتى مارس 1945م وتم الإفراج عنه بأمر الإمام يحيى وارساله إلى صنعاء.
وتم تعيينه عضواٍ في هيئة تدقيق الأحكام من قبل ولي العهد أحمد الذي كان يعمل على استصفاء دعاة الإصلاح.
ثورة الدستور وانقلاب الثلايا
واستعرض القاضي في الفصول اللاحقة عدداٍ من الأحداث المهمة منها ثورة الدستور التي أودت بحياة الإمام يحيى حميد الدين في فبراير 1948م وتنصيب الإمام الدستوري الجديد عبدالله الوزير وما حدث من أخطاء أدت إلى افلات ولي العهد أحمد من هذه الثورة وسقوطها والاغتيالات التي تمت لرموز الثورة واعتقال المؤيدين لها والمشاركين فيها وكان القاضي ممن تم اعتقالهم وارسالهم إلى سجن حجة حيث ظل فيه حتى العام 1954م حيث تم اطلاق سراحه كما تطرق إلى انقلاب 1955م الذي قاده المقدم الثلايا وأسبابه وفشله وبسبب ذلك أودع السجن مع من تعاونوا مع الانقلاب ولم يلبث طويلاٍ فقد تم الافراج عنه بعد أن ظن أنه سيعدم.
برنامج العمل الوطني
يقول القاضي الإرياني: وحين تدهورت الأوضاع بعد ذلك نتيجة لما بلغت إليه حالة الإمام الصحية من السوء حتى حالت بينه وبين أعباء الحكم ووعي مسؤولياته الأمر الذي أدى إلى ترك المواطنين تحت رحمة الاستغلاليين والمرتشين وفاسدي الضمائر يعبثون بهم عبثاٍ ونتيجة للأخطار التي تحدث باليمن بوجود الانجليز في جنوب البلاد والأطماع السعودية في الشمال التي تحلم بتوحيد الجزيرة العربية تحت عرشهم وكذلك الانقسامات الداخلية كل ذلك حدا بطائفة من أبناء الشعب اليمني وزعمائه الذين يهمهم مصلحة وطنهم والحفاظ على استقلاله إلى الاجتماع في هيئة مؤتمر سري للنظر في وضع برنامج عمل لإقامة حكم صالح وحكومة تنفذه وتحفظ الأمن وتضبط مصالح الأمة والبلاد وقد عقدت عدة جلسات درس فيها المجتمعون حالة البلاد في الحاضر والوضع الذي يجب أن تكون عليه في المستقبل وخرجوا بعدة قرارات هامة وكان ذلك بداية العام 1956م وتم الاتفاق على تجميع القوى المختلفة داخل البلاد للحشد لهذا البرنامج واستمر طويلاٍ حيث دخلت البلاد في حالة هدوء.
وخلال تلك الفترة فقد استعرض القاضي الإرياني عدداٍ من الأحداث الهامة ومنها الحلف العسكري الثلاثي بين اليمن ومصر والسعودية والذي تم التوقيع عليه من قبل الملك سعود وعبدالناصر والإمام أحمد في جدة في أبريل 1956م وكذلك العدوان الثلاثي على مصر والموقف السلبي للإمام من العدوان حيث التزم الصمت ولم يصدر بياناٍ يستنكر العدوان رغم النصح الذي قدم له من قبل الكثير.
ومن ثم تعرض للحديث عن مشاركة اليمن في الاتحاد الفيدرالي الذي يضم إلى جانب اليمن مصر والسعودية ومن ثم تتوالى الأحداث ليتم الإعلان عن الاتحاد الفيدرالي في جنوب اليمن بين السلطنات والمحميات برعاية بريطانية ودور القاضي الإرياني ورفاقه في حث الإمام أحمد على معارضة الاتحاد.
الاهتمام بالجنوب
اهتمام القاضي الإرياني بجنوب اليمن يعود إلى العام 1939م حين قام بفريضة الحج عبر مروره بالمناطق الجنوبية حتى مدينة عدن حيث ظل فيها نصف شهر منتظراٍ باخرة هندية تقله إلى جدة وأثناء تواجده في عدن شاهد الانجليز وجنودهم يسرحون ويمرحون ويحكمون البلاد بعنجهية واستعلاء وبعد خروجه من سجن حجة في العام 1953م أصبح مهتماٍ اهتماماٍ زائداٍ بموضوع الجنوب المستعمر والمحمي وكان يتابع الأخبار هناك ويرفع الرسائل إلى الإمام لحثه على تزعم الحركة ضد الاستعمار.
وكان الإرياني يرى أن قيام الاتحاد الفيدرالي وإنشاء دول الجنوب العربي إنما هو تكريساٍ للتجزئة وتأييداٍ للتشطير ولهذا قام بدوره الوطني في الرفع برسائل إلى الإمام لتبني معارضته هذا الاتحاد بكل الوسائل الممكنة وشرح له ما فيه من الأخطار على وحدة اليمن وعلى حكومته ولكن دون جدوى.
وتطرق القاضي الإرياني في الفصول الأخيرة من الجزء الأول من مذكراته إلى مرض الإمام أحمد وزيارته إلى ايطاليا للاستشفاء وما شمله ذلك من زيارات للمواقع السياحية هناك وفي العام 1960م تم تكليفه بإمارة الحج فكان له أن اطلع على المشاكل والصعوبات التي تواجه الحجاج اليمنيين في تلك الفترة وجاهد من أجل حلها.
وكذلك محاولة اغتيال الإمام أحمد في مارس من العام 1961م بعد أن اطلق عليه مجموعة من الضباط الرصاص في مستشفى الحديدة وقد تم محاكمتهم وإعدامهم بعدها تم إعلان محمد البدر ولياٍ للعهد الذي قام بزيارة إلى الخارج منها السعودية وسويسرا وايطاليا وغيرها ورافقه القاضي في هذه الزيارات.
عام الثورة
خصص القاضي الإرياني الفصل الأخير من هذا الجزء للحديث عن العام الذي اندلعت فيه الثورة وقد كان عاماٍ مليئاٍ بالأحداث وكان العمل الوطني على أشده في صنعاء وفي تعز محل إقامة الإرياني وكان هناك تواصل مع الجانب المصري من أجل الإسراع بالثورة فيما تم تشكيل أول حكومة في النظام الملكي بداية هذا العام برئاسة ولي العهد محمد البدر الذي قرر استكمال تركيب الحكومة الشكلي فقد كانت الوزارات لا هيكل لها ولا نظام تسير عليه بل كانت مكاتب يحيل الإمام إليه للحفظ أو للتنفيذ فلا جلسات تعقد ولا مواضيع تدرس.
واختتم الفصل بالحديث عن موت الإمام أحمد في تعز وكيف تم استقبال خبر موته ونقله إلى صنعاء لدفنه ومبايعة البدر إماماٍ خليفة لوالده ومن ثم التعجيل بالثورة بعد أسبوع من تولي البدر الإمامة.
وأثناء تواجد الإرياني في تعز تلقى خبر اندلاع الثورة عبر إذاعة صنعاء بفرحة غامرة غير مصدق ذلك وحينها استعرضت عيناه مواكب الشهداء من سنة 1948م إلى 1961م وتخيل أن أرواحهم ترفرف على أجواء اليمن في مهرجان النصر.