نص من كتاب قديم

* مايو.. عيد أعياد الوطن.. ونشيد أناشيد العزة والمجد.. فاصلة شدت خاصرة الزمن المترهل فاستقام جسده واشتد عوده وبدا كما لم يكن يوما ذي قبل.. أسطورة ظلت الأمنيات عقودا من الزمن ترسم تفاصيلها وتزين هيأتها لأجيال وأجيال من الاصطبار على عواصف الانقسام وزلازل الفرقة وطوفانات الشتات والتنائي والتشرذم الذي عاشه وذاق مراراته اليمانيون مجبرين.. واكتوى برمضائه وطن عزيز لم يخلق ليكون منقسما أو مشتتا كما شاءت له الأقدار وحكمت عليه الظروف وأراد له المريدون الحاقدون..
* مايو.. إعادة مباركة لحق مبارك.. اغتصبه الزمن من يمنية كل يمني.. استرجاع لذاكرة انتماء جذري لإنسان هذه الأرض الطيبة التي لم يتعود منها التاريخ في تعاقبه أدنى من العزة والكرامة والمجد سلوكا.. ولم تشهد البشرية جمعاء لأرض كما شهدت لها ولا لأهل كالذين قطنوا سهولها وجبالها سواحلها وقفارها.. فغرسوا في كل شبر منها عزتهم التي تضاهي كرمها وأشاعوا في تقاسيم الفضاء كبرياءهم الذي يحاكي جبالها..
* مايو.. معنى فتح آفاق القول والشعر والفن فاعتقل مشاعر المبدعين والفنانين ليظلوا على شاطئه يبحثون عما يناسبه من العبارات والتقاسيم فلم يصلوا بعد ولا نحسبهم واصلين.. فقرة مفصلية في كتاب مقدس اسمه اليمن لو لم توجد ما استطاع الوجود أن يفصل حتى في عبارة من حبره وهذيانه ولما اعتز التاريخ بكونه محتوى لمعانيها ودلالاتها.. عبارة هي جوهر التكوين للمجد ومبعث الانبثاق للفخر والزهو.. حكاية لم تقلها الجدات الماضيات أو الحاضرات وحسب بل قالتها وستظل تقولها القوادم من بنات الفكرة والإنشاء أولئك الجميلات اللائي لا يجرؤ النسيان على الاقتراب منهن أو حتى المرور من جوارهن..
* مايو.. أغنية ألف كلماتها ولحنها وصدح بها شعب فنان احتكم على مواهب الأرض بأكملها ولم يجرؤ يوما على أن يدعي تميز فنه دون غيره من البشر.. بالرغم من كون المسافة بينه وبين أروع فناني الأرض شاسعة حد اللا حد.. وعلى الرغم من أن الفوارق بينه وبين ما عداه أكثر غزارة وجوهرية مما بين السحابة وظلها..!!
* مايو.. قيثارة حزينة.. ربما ولكنه الحزن الذي بإمكانه أن يملأ الوجود تعبيرا عن احتمال تقلبات الزمن وعواديه والبعيد حد الاستحالة عن إمكانيات أو دلالات الانكسار أو السقوط أو الإذعان لعجاج الهزيمة.. إنه حزن الأوطان حين تصر الخيانات على أن تستقر زادا ساما في أجواف شراذم من بنيها.. الذين يصرون على الانتحار فقط ليموت الوطن.. ويحبذون الخديعة والمكر سلوكا لتغضب الوطنية ويدمع الانتماء ويجهش بالحسرة واقع الحال.. إنه نشيج الأسيف المتحسöر على فلذات كبد تختطفهم الخيانات على مرأى ومسمع.. وحين يعودون يستكثرون حتى عبارة بسيطة قد تعني التأسف أو انحناءة موجزة قد تدل على الاقتراف والاعتراف..!!
* مايو.. أسطورة إعجاز لم تدرك قبلها المواعيد نجازا كما فعلت.. وغاية لم يتحقق لمثيلاتها ما تحقق لها من الانتصار على الواقع ولي ذراعه وإجباره على الاعتراف بتحققها.. إنها براق من ضوء طوى في إبطه كل أحلام القادم وانطلق محلقا في الأعالي صوب المستقبل.. طار بعيدا مخلöفا وراءه كل أحزان الماضي المتبلة بالحزن والقهر والشكوى الأشد مرارة من شتات الأرض والأفئدة..
* مايو.. نص من كتاب قديم جدا قرأه الأطفال فتباركت خطواتهم وتقدست أناشيدهم واختال هندامهم فبدو وكأنهم يسيرون على بساط أخضر من عشب الأمنيات الذي زرعه الآباء والأجداد ليحمي أقدامهم من كل قيظ محتمل ويضع حدا بينهم وبين ما خلفته حرائق الماضي من رماد قد يعلق بهم فيؤذي حدقات وأزياء غدهم المأمول..
* مايو.. أب يلزمنا تجاهه الانحناء طويلا والاعتذار كثيرا عما ارتكبته حماقاتنا جملة من خطايا.. نعرف جيدا بأنه سيغفر لنا زلاتنا وسيمد يده ليمسح على رؤوسنا ويربت على أكتاف عزيمتنا ويمد أخراه باتجاهنا ليأخذ بيدنا في أنسب لحظة للإنقاذ وقبل أن يغيبنا التهاوي في المصائر المخيفة التي ربما نستحقها.. نعرف جيدا أنه سيلتقطنا.. ويوقفنا أمامه على أقدامنا.. يحدق مليا في أعيننا الدامعة.. ثم ما يلبث أن يفتح ذراعيه ويأخذنا في أحضانه.. يرمم أحزاننا ويكتفي بمطالبتنا بالتوقف عن اعتذاراتنا المتوالية لجلاله المهيب..
* مايو.. ربما يعفو عنا يوما ويتمنى منا أن ننتعل كل جراحاتنا ونخلع عنا لبوسات الندم.. وأن نمضي معه صوب آفاق جديدة لا تعرف شيئا عن ماضي تلك الاقترافات.. وسنمضي معا باتجاه الحلم غير أنا في الحقيقة لن نأمن من أن نتكرر في سطور المروي من الخيانات التي لا يغفل الزمن عن تدوينها.. وربما بعد استراحة موجزة ستعاود خطايانا واعتذاراتنا القادمة من الأزل سفرها وترحلها لتظل لعنة لا نبرأ منها للأبد.

قد يعجبك ايضا