الصين وتحولات العالم

على خطى الصين يسير العالم” هو عنوان كتاب الجديد للمؤلف كارل جيرث وترجمة طارق عليان.
يعرض هذا الكتاب الشائق والمثير التغيرات التي تحدد اتجاهات الأسواق الصينية في يومنا هذا والتي قد تحدث تحولاٍ في العالم في النهاية فعواقب هذا التحول في الصين قد تْحدث تغيرٍا في العالم من نواح مهمة وإنú كانت غير محددة في الغالب لكن المؤكد أن مستقبل الصين ومستقبل العالم سيتشكل بفعل اندفاع الصين نحو الاستهلاكية فأينما تسير الصين يسير العالم كما تبين فصول الكتاب الصادر عن كلمة للترجمة في أبو ظبي.
ويقدم الكتاب صورة نابضة بالحياة للصين المعاصرة ويوفر لنا جيرث كنزٍا من المعلومات في صورة سهلة الاستيعاب ومثيرة للاهتمام. إنه مقدمة قيمة لأهم أوجه الثقافة الاستهلاكية الصينية ولا بد أنه سيكون مفيدٍا للقْرِاء من التنفيذيين الذين يريدون دخول سوق الصينيين إلى باحثي علم الاجتماع الحريصين على فهم التغيير الذي تْلحقه الثقافة الاستهلاكية بالصين. فالصين لا تكتفي بمجرد تصنيع معظم منتجات العالم بل إن مواطنيها المليار يستهلكون بشكل متزايد هذه المنتجات بشهية على الطراز الغربي شهية في كل شيء من المياه المعبأة وحتى سيارات “بي إم دبليو”. ويضم الكتاب بين دفتيه دروسٍا لجميع المعنيين بإدارة الأثر المتزايد للاستهلاك البشري على كوكبنا الهش.
ثمة طرق عديدة لقراءة هذا الكتاب الذي يحتوي أكثر من رسالة محورية. فمن ناحية يمكننا أن نعجب بإنجازات البلد الهائلة في انتشال مئات الملايين من براثن الفقر في زمن قياسي أو نقف مشدوهين على قمة ناطحة سحاب جديدة في شنغهاي وننظر بالأسفل إلى الآلاف من البنايات الشاهقة التي بنيت في غضون العقد ونصف العقد الماضيين. لكننا من ناحية أخرى نرى العقبات والتحديات العالمية الحقيقية التي أسفر عنها لحاق الصين بركب الأنماط الحياتية لمئات الملايين من نظرائهم المستهلكين في البلدان الأكثر تقدمٍا من الناحية الاقتصادية.
العنوان الكامل لكتاب جيرث هو “على خطى الصين يسير العالم: كيف يْحدث المستهلكون الصينيون تحولٍا في كل شيء”. وإذا كانت عبارة “كل شيء” تبدو وكأنها ضربٍا من ضروب المبالغة فلنعطي جيرث الفرصة لشرح ذلك إذú يرى أنه في الوقت الذي تحفز فيه النزعة الاستهلاكية غربية النمط حدوث تغيرات كبيرة في الصين نجد أن هذا الاتجاه ذاته له أيضٍا تأثير هائل قادر على إحداث تغيرات ثقافية واقتصادية وبيئية جذرية داخل البلد وخارجه على السواء.
الصين بلد شاسع ومعقد وهو قصة شديدة السخونة في الوقت الحاليº إذú أن البلد في غضون عقود قليلة نجح في أن يصبح قوة اقتصادية كبيرة. لقد ولِت أيام اضطرار الصينيين إلى حمل زوجين من عيدان تناول الطعام وإعادة استخدامهما لعدة سنوات فاليوم تستهلك بكين وحدها يوميٍا ما يقرب من 10 ملايين من أزواج عيدان تناول الطعام التي تستعمل مرة واحدة. كما ولِت أيام أن كانت وسائل المواصلات تعني اكتظاظ شوارع المدينة بنسخ متطابقة من الدراجات فقد أصبحت الصين أكبر مستهلك للسيارات في العالم. هذه التغييرات تبدأ تروي لنا قصة صينُ تتحول وبشكل متزايد إلى بلد استهلاكي على النمط الغربي.
يوصف الاستهلاك الصيني أحيانٍا بأنه وسيلة لإنقاذ الاقتصاد العالمي. وتمضي هذه النظرية على النحو التالي: سيخلق الطلب الصيني على السلع رفيعة التقنية والخدمات المالية والمنتجات الأخرى الأمريكية والأوروبية فرص عمل ويعزز النمو الاقتصادي العالمي حتى مع تشجيعه على تحول الصين إلى الرأسمالية. ويبين جيرث مشكلة هذا التفكير وهي أنه حتى مع دفع الحكومة الصينية في اتجاه النزعة الاستهلاكية فإنها فتحت على نفسها الباب أمام عواقب غير مقصودة. وهو يقول: “لا يسهل وضع قيود على آمال وأحلام المستهلك الذي لا يتسنى من دونه إطلاق أي سوق جديدة”.
يعقد جيرث المتخصص في تاريخ الصين الحديث في جامعة أكسفورد مقارنة بين زياراته الحديثة إلى الصين وزياراته المبكرة في ثمانينيات القرن المنصرمº فيعطينا لمحات من الماضي والحاضر تدلل على ما تحقق من نمو سريع ويوضح أن تايوان هي التي عجِلت بانتشار النزعة الاستهلاكية في الصين وبالتالي غيِرت مسار الصين وكل ما عداها أيضٍا.

ترتب على الإصلاح الاقتصادي صعود نخبة صينية جديدة وبالتالي شكل جديد من اللامساواة التي تتسبب في عدم ارتياح بين ملايين الصينيين وحكومتهم في بلد طالما اعتْبر من بين البلاد الأكثر مساواة في العالم. انتْشل عشرات الملايين من الصينيين من براثن الفقر وبات في وسعهم الحصول على منتجات ما كانت تخطر لهم ببال من قبل. ولكن لم يكن هذا هو الحال مع عشرات الملايين من الصينيين الآخرين. ويشير جيرث إلى المهمة الجسيمة التي تقبل عليها البلد فيما تحاول المناورة بشكل متناغم خلال هذا التحول السريع متطرقٍا أيضٍا إلى مخاطر الأسواق غير المنظمة لا سيما إذا وضعنا في اعتبارنا الشهية العالمية للاتجار في البشر والحيوانات المهددة بالانقراض والخشب. ثم يتناول العواقب المترتبة على تزايد النفايات والتلوث والتحديات الناجمة عن الديناميات الاجتماعية سريعة التغير.
وفي النهاية يطلب جيرث من القْرِاء أن يأخذوا في اعتبارهم أن تفادي المشكلات الكبيرة يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد التغييرات إذú أن الوعي العالمي المنعكس في سلوك المستهلك ربما يحتاج إلى تغيير. فالعالم يشهد النمو المتزايد لنفوذ الصين ويدور الجدل الحالي حول العملة والحرب وفرص العمل. ومع تزايد الضجة يبدو الوقت ملائمٍا لدراسة ما يشهد تغيرٍا في بلدُ كبير كالصين.
يحمل مؤلف الكتاب كارل جيرث درجة دكتوراة الفلسفة من جامعة هارفارد ويعمل أستاذٍا للدراسات الصينية في جامعة أكسفورد كما حصل على العديد من الجوائز البحثية منها جوائز من مؤسسة فولبرايت الأمريكية والأكاديمية البريطانية ووزارة التعليم اليابانية. ويشغل كارل حاليٍا منصب الرئيس المشارك لفريق الصين بمشروع (Ceres21) الذي ينفذ برعاية مجلس البحوث النرويجي ويْدرس عمليات التكيف الإبداعي في صناعتي السيارات والطاقة مع تغير المناخ والبيئة في ثلاث قارات وهو متحدث ذائع الصيت في محافل الشركات الدولية والمنظمات المدنية والمؤسسات التعليمية.
أما مترجم الكتاب طارق عليان فهو كاتب ومترجم صحفي في مجلة “العربي” ومجلة “العربي العلمي” و”الثقافة العالمية” الكويتية. ترجم وراجع عددٍا من الكتب لدى مشروع “كلمة” في أبوظبي. من بين الأعمال المترجمة المنشورة: “الاضطراب المناخي” و”عندما يضل العلم الطريق” و”بستان غير منظور: التاريخ الطبيعي للبذور”. كما عمل محررٍا صحفيٍا لدى العديد من الصحف العربية والدولية والمواقع الإليكترونية منها: “صحيفة الاقتصادية” السعودية و”صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية ومجلة “المجلة” اللندنية وموقع “العربية نت”.

قد يعجبك ايضا