انحسار في الرزق.. وسعة في التضحية والصمود

27 يوماٍ قضته العاصمة صنعاء وعدد من محافظات الجمهورية في قصف جوي متواصل على مدار الساعة استهدف المنشآت العسكرية والمدنية والبنية التحتية بشكل عام ومنازل المواطنين وممتلكاتهم وحتى مزارع الدواجن والحيوانات لم تسلم من “عاصفة الحقد والكراهية” ولم تفرق صورايخ وقذائف مقاتلات العدو بين رجل وامرأة وصغير وكبير ومدرسة وجامع وقبر وجسر ومصنع وفندق ومخيم نازحين.
وطوال الـ27 يوما كانت الغارات الجوية وخصوصا على العاصمة صنعاء أشبه بالفروض الواجب أداؤها بانتظام فتختار مواقيت الصلاة موعدا للقصف والحرق والقتل والتدمير وتكثف من غاراتها وقت صلاة الفجر وأثناء أداء صلاة الجمعة ونظرا لبشاعة الجرائم التي ارتكبتها مقاتلات الأعداء وبالأخص استهدافها منازل المواطنين كما حدث في منطقة بني حوات والجراف ووادي احمد وشارع خولان والستين وعطان وغيرها من المناطق مما دفع بالكثير من الأسر إلى حمل حقائبها والنزوح خارج العاصمة بعيداٍ عن قطيع الطائرات السعودية وأصبحت بعض الأحياء فارغة من ساكنيها وفرغت الشوارع من طوابير الازدحام وأقفلت عشرات المحلات التجارية أبوابها أمام زبائنها نتيجة تأثر الحركة التجارية بفعل الحرب .
صنعاء القديمة
وحدها صنعاء القديمة من ظلت محتفظة بزحمة أسواقها وإن تراجعت نوعا ما إلا أنها لم تكن بذلك الشكل الذي شهدته الأسواق الواقعة خارج السور التاريخي لهذه المدينة العريقة .
زرناها صباح اليوم السابع والعشرين من العدوان الغاشم على اليمن بقيادة المملكة السعودية وكانت طائرات العدوان تحلق بكثافة في سمائها منذ ساعات الفجر الأولى ثم تمضي لصب جام غضبها  وحقد مرسليها على موقع عسكري وقرى سكنية في منطقة ضلاع همدان غرب العاصمة صنعاء موقعة أكثر من 40 جريحاٍ من أبناء المنطقة معظمهم نساء وأطفال.
كل شيء ينبض بالحياة
ليست المرة الأولى التي نطوف فيها شوارع صنعاء القديمة ونتجول بين أزقتها وبالتأكيد لن تكون الأخيرة ولكننا وجدناها هذه المرة غير كل المرات السابقة.. كل شيء فيها يفيض بالصمود وبالحياة والكرامة والشرف والكفاح والنضال وحب الوطن.
الباعة الجائلون يتنقلون بين شوارعها وأزقتها كعادتهم منذ سنين وبائع “الكدم” يتوسط الباحة الخلفية لباب اليمن من الداخل ويضع “كوفية النخيل” على رأسه غير مبالُ بصوت طائرات الشبح والـ f16 وصواريخ أرض أرض وكروز وغيرها من القذارة التي استخدمها العدو في محاولة منه لإرعاب وإركاع شعبنا اليمني.
بائعات “اللحوح” و”البخور”و”المشاقر” هن أيضا يتمركزن في أماكنهن المعروفة منذ قبل الحرب وأثنائها وفي اليوم الـ27 من عمرها ومعاصر الزيوت تواصل دورانها متكئة على جمل معصوب العينين يمضي بثبات وثقة دون أي اهتمام بما يحمله “بعير” الجوار من حقد دفين على كل مقومات الحياة في هذا الوطن.
تضحية وصمود
“انحسار في الرزق يقابله سعة في التضحية والصمود”.. بهذه الكلمات البليغة عبر الحاج احمد مرزوق عن حبه لوطنه مؤكداٍ بأن الحركة التجارية انحسرت كثيراٍ بسبب الحرب إلا أن مجرد بقاء المحال التجارية مفتوحة اثناء القصف ومع دوي الانفجاريات يعتبر اكبر مكسب وأفضل انتصارا لأنه جزء من النضال والكفاح والصمود.
التاجر مرزوق الذي يمتلك ثلاثة محلات لبيع الزبيب واللوز والمكسرات وتتوسط سوق الملح تحدث معنا فيما كانت الأرض تهتز من شدة القصف بمنطقة ضلاع همدان ويصل تأثيرها على بعد كيلومترات لتتناثر حبيبات الزبيب واللوز على الأرض بعفل الاهتزاز وهو يلتقطها ويمسح ما علق بها من تراب بكل حب وعطف وحنان ثم يرفع يده نحونا والحبيبات عليها قائلاٍ :” هذا هو وطننا وهذه ثروتنا ولن نتنازل عنه شبراٍ واحداٍ ولن نسمح بتدميره من قبل اي جهة كانت وسنموت دفاعاٍ عنه وبقاؤنا في المحالات التجارية هي رسالة بحد ذاتها للدول بأننا لن نخاف ولن نجبن أو ننكسر”.
التاجر مهيوب الحاج من جهته أكد لنا تراجع مستوى المبيعات بشكل لم يسبق ان حدث من قبل لافتاٍ الى أنه قام بنقل اسرته من الأطفال والنساء الى القرية منذ بدء العدوان فيما رفض انثان من أبنائه “الفتية” الرحيل وفضلا البقاء معه ومساعدته في اعمال المحل وحتى يظل المتجر مفتوحاٍ أمام الزبائن ولو كان الزبون شخصاٍ واحداٍ.
يقول مهيوب  الحاج:” ما نبيعه لا يغطي مصاريف الأكل والشرب إلا أن المكسب الوحيد هو البقاء في أرضنا ومحلاتنا والصمود مع بقية أبناء الوطن وعدم الفرار ” مضيفاٍ :” فرارانا من السوق لايقل جرما ٍ عن فرار الجنود من المعركة ونحن ورثنا الصمود عن آبائنا وأجدادنا وسنورثه لأبنائنا من بعدنا”.
ويوافقه في هذا الطرح بائع الأقمشة هيثم الجبل الذي قال بأن إغلاق المحلات التجارية وإفراغ الأسواق من الزبائن يعتبر أحد أهداف العدوان لضرب الاقتصاد الوطني حتى وإن كان المحل عبارة عن “دكان” صغير في سوق الملح.
ويضيف الجبل قائلاٍ :” منذ أكثر من عشرين عاماٍ ونحن في هذا المكان ولم يحدث أن غادرنا أو أغلقنا أبواب المحلات في وجه الزبائن” موضحاٍ بأن الأمر لا يتعلق بالمكسب والخسارة بقدر تعلقه بالأرض والحضارة.

قد يعجبك ايضا