لم أجد في ما أمكنني الاطلاع عليه من روايات روايةٍ نكلت ببطلها وعِرِتú شخصيته من كل مضامينها القيِمية التي يكون بها الفردْ بطلاٍ كما وجدتْ في رواية العْماني سليمان المِعúمِري وعنوانها «الذي لا يحب جمال عبد الناصر» والصادرة عن دار الانتشار العربي – بيروتº إذú تجهزت بكل بلاغتها السردية ولاذت بها سبيلاٍ إلى تهشيم شخصية بطلها «بسيوني سلطان» وتهميش صورته في نسيجها الحكائي.
بطلَ في غْرúبتِيúن
افتتح سليمان المعمري روايته بحدث عجائبي صورتْه حواريةَ بين الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وحارس المقبرة طلب فيها الأول تمكينه من زيارة مصر التي اشتاق إليها وسمع بقيام ثورة عظيمة فيها (ثورة 25 يناير) لكن الحارس ذكره بقانون المقبرة الذي لا يسمح له بالخروج من قبره إلا متى طلب أحد أعدائه زيارته. ولأن عبدالناصر يعرف أن كارهيه ماتوا جميعاٍ خلد إلى النوم إلا أن الحارس أيقظه قائلاٍ: «وأنا أقلب دفتر العلاقات وجدتْ أن ثمة رجلاٍ ما زال على قيد الحياة يكن لك كراهية شديدة لدرجة أنها لو وْضعت وحدها في كفة ووْضع بْغض جميع الناس لك في الكفة الأخرى لرجحت كفته». فتعجب عبدالناصر وخمن أن يكون ذاك الشخص أحد أبناء سيد قطب أو محمد نجيب أو غولدا مائير أو أحد أحفاد الملك فاروق. لكن الحارس أعلمه أن الشخص مواطن مصري يعيش متغربٍا في عْمان وأمده بعنوانه وأخبره بأنه سيسمح له بزيارته وإذا تمكن من أن يستل 1 في المئة من كراهيته له فسيْعيده حيا إلى مصر. وإذاك سافر عبدالناصر إلى عْمان وتوجه في تاكسي إلى عمارة سكنية بمنطقة الحمرية «وهناك قرع باب الشقة 18… فتح بسيوني سلطان الباب فرأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه» فراح يهذي بهستيريا: «حوشوه عني… جمال عبدالناصر» ثم «شهق شهقة قوية وسقط مغشياٍ عليه» على حد قول جاره العْماني الذي لم ير غير بسيوني بالباب. ثم حْمل إلى المستشفى بعد أن دخل في غيبوبة تواصلت أشهْراٍ ولم تْخبر الرواية بخروجه منها سوى بكونه لا يزال واقعاٍ «بين الحياة والموت وكأنه المجرم الصهيوني شارون». وبهذا الحدث اللامعقول تكون رواية سليمان المعمري اطمأنت إلى إغراق بطلها «بسيوني سلطان» في غربتيúن: غربة الوطن وغربة الوعي بالعالِم لتتفرغ بعد ذلك لتقشير ماضيه وحاضره تقشيراٍ عرى كل حقائقه.
دِم القبائل
لا تْخفي الرواية أهم أسباب كراهية «بسيوني سلطان» لجمال عبدالناصر التي جعلته لا يذكر اسمه على لسانه ومن أهم تلك الأسباب اثنان: أولهما هو قانون الإصلاح الزراعي الذي سنته ثورة الضباط الأحرار وصادرت به 44 فدانا كانت ملكاٍ لجده في قرية «كمشيش» ووزعتها على صغار الفلاحين وثانيهما هو «خيانة» عبدالناصر لجماعة الإخوان المسلمين الذين جاؤوا به إلى الحكم فانقلب عليهم وهما الأمران اللذان دفعا «بسيوني سلطان» إلى الهجرة إلى عْمان للعمل فيها مدرساٍ ثم مصححاٍ في إحدى الصحف.
فرع الكاتب روايته إلى خمسة عشر فصلاٍ اختص الراوي العليم بالأول والأخير منها وأْسندِ الحكيْ في الفصول الباقية لزملاء «بسيوني سلطان» في الصحيفة وهم من عْمان والسودان وتونس ومصر. وتكفل كل واحد من هؤلاء بالإخبار عن علاقته مع بسيوني وتوصيف ملمح من ملامح شخصيته وفق خطة سردية مائزة صورتْها تغييبْ البطل جسداٍ وإحضارْه ذكرى يتصرف في روايتها كل واحد منهم تصرفاٍ حرٍا في ظل غياب «بسيوني» وعدم قدرته على دحض حقيقة ما يقال عنه.
ولئن ظهر من زملاء بسيوني تعاطفْهم الإنساني مع حالته الصحية فإن حديثهم عنه أنبأ باحتقارهم الخفي له عبر تعرية تاريخه بكل عيوبه الجسدية والنفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية مْتِكئين في ذلك على سخرية لاذعة مصبوبة في «إهانة مْقنِعة ومحمولة في خطاب مجاملة» على حد قول إدوين بيرسي ويبل. فقد تكفل كل واحد منهم بتصوير ملمح مْعين من ملامح شخصية «بسيوني» تصويراٍ يشي بكونهم اتفقوا على رسم لوحة له أصروا على أن يبدو فيها كائناٍ عصابياٍ ومتهافتاٍ يتفكهون بحضوره بينهم ويناوشونه طلباٍ للإضحاك على غرار تلك المقالب التي كان يْعدها له زميلْه بالصحيفة «سالم الخنصوري» وتجعله مثل «بطة قْذفت وهي حية في قدúر ماء يغلي» ونكتشف معهم أن بسيوني ليس خريج جامعة الأزهر كما يدعي وهو «عضو سابق بجماعة الإخوان» وقد كان شاهداٍ على زواج رئيس التحرير بامرأة في السر ويكن كراهية للعْمانيين.
وفي هذا الشأن تْفيد قراءة الرواية بأن سليمان المعمري لم يتعامل مع السخرية باعتبارها بذخاٍ أسلوبياٍ وإنما استعملها سبيلاٍ إلى العبور إلى كينونة شخصية بطله ليشرح فيها تفاصيلها ويتبين طبيعةِ علاقاتها مع عناصر محيطها وما يحكم ذلك من مواقف جامعة لشتى صنوف المفارقة التي هي من السخرية جوهرْها ولعل من مظاهر هذا التشريح الساخر ما تجلى في تنويع الكاتب من جنسيات هؤلاء الصحافيين كما لو أنه تعمد توزيع «دم» بطله بسيوني بين «القبائل» فلا يستطيع حتى وإن عاد إليه وعيْه أن يثأر لنفسه منها جميعاٍ. ولكي تْمعن الرواية في سلخ بطلها بإبرة السخرية لم تترك أحداٍ ممن عرفوه إلا وأحضرت رأيِه فيه كاشفة بذلك عن كل سوءاته النفسية والاجتماعية.
فحولة زائفة
لم تهتم رواية سليمان المعمري بالوقوف كثيراٍ في منطقة الملامح الإيجابية لبطلها ولا بمنطقة ملامحه السلبية فذاك أمر مألوف في أحوال الآدميين ولا يحتاج إلى مشقة التوصيف وإنما اهتمت بالكشف عما يقع بين تِيúنك المنطقتيúنº وهي منطقة وعرة المسالك لكونها تتضمن كل ما هو غائم ومْناور وفجئي ومتحرك ومتناقض في شخصية البطل «بسيوني سلطان». وعليه كان لا بد للكاتب من أن يتسلح بأساليب لغوية قادرة على الولوج إلى هذه المنطقة الغائمة من شخصية البطل ويستفز تفاصيلِها حيث وقفنا في بنية جْملته السردية على حضور أسلوبيú الاستدراك باستعمال «لكن» والإضراب باستعمال «بل» وهما حرفان يثبتان لمِا بعúدهما حْكúماٍ مخالفاٍ لحْكم ما قبلهما أو يْبطله أصلاٍ على حد ما قال به النحاة وباستعمال هذيúن الأسلوبيúن تقطع الرواية مع ما يْظهر أو يحاول أن يْظهر البطل «بسيوني سلطان» من صفات إيجابية فيه وتفند صدقيتها. ومن صْوِر ذلك ما نلفيه في قول المصحح السوداني في الجريدة: «في الظاهر هو رجل قوي ومصحح ممتاز ولكن في الجوهر هو ضعيف دون أن يشعر أنه ضعيف» رافعاٍ بذلك غطاء الظاهر من قوة البطل ليكشف بسخرية لاذعة عن هشاشته النفسية وجهله بها وهو ما يؤكده رئيس القسم الديني بقوله: «اكتشفتْ أن دمعة بسيوني متأهبة للنزول لأتفه الأسباب… يتهيأ لي أن بكاء بسيوني هو بكاء على نفسه قبل أن يكون على الآخرين». ومن وجوه الاستدراك أيضاٍ ما جاء في ملاحظة زوجة رئيس التحرير حول عدم قدرة بيسوني على التمتع بالدنيا في قولها: «إنه رجل لا يستمتع بحياته هذا هو الانطباع الأولي أو لعله يريد أن يستمتع بحياته ولكنه لا يعرف لا يعرف كيف يحرك عضلات شفتيúه ليبتسم» وهو قول يبلغ بالضحك من البطل أقصى درجاته عبر بيان عجزه عن تحريك عضلات شفتيه للابتسام. ولتأكيد صفة عدم وفاء بسيوني لزملائه يقول المصحح السوداني: «صحيح أن بسيوني استغل مرضي السنة الماضية وحاول إحضار مصحح آخر من أقربائه خلال غيابي لكني لست مثله على كل حال». أما زميله سالم الخنصوري فيكشف عن كره الناس لبسيوني بسبب طبيعة سلوكه وشكه الدائم في كون جميع الناس يتآمرون عليه.
وظاهر مما مر أن رواية سليمان المعمري قد نجحت في تصوير بطلها بكل هذا البؤس النفسي والاجتماعي والأخلاقي تصويراٍ ساخراٍ بلغ حد الشك في كونه «يعيش مراهقة متأخرة فهو كثير السؤال عن الزميلات: «فلانة متجوزة¿» «أمالِ فين فلانة اليوم¿» «ماله بطنها كبير كده¿ هي حامل ولا إيه¿». ولكي تزيد هذه الرواية من تعميق حال المراهقة التي يعيشها البطل نْلفيها تْبرر أسئلته عن النساء بادعائه الكاذب للفحولة. وإذ نجحت الرواية في تعرية بطلها والكشف عما يسكن شخصيته من زيف وضعف واستهتار وعدم وفاء عمدت إلى حرمانه من الحصول على الجنسية العمانية بعد قضائه ما يزيد على ثلاثين سنة بعْمان في الوقت الذي تْعطى فيه للوافدين الجدد.