قرأت الكثير من الإصدارات الشعرية التي أبدعها الشباب فرأيت أن هناك تفاوتاٍ في استمرارية قوة الخطاب في نصوص المنتج وهناك بعض التفاوت في القوة والضعف . لكن عندما قرأت ديوان / محمد صالح الجرادي / رأيت أنه شاعر متمكن من أدواته الشعرية بمختلف أنواعها سواءٍ كانت الشاعرية أو الشعرية أو المضامين والرؤى التي يطرحها بقدرات شاعر يدرك خطابه وماذا يريد أن ينقل للقارئ فضلاٍ عن السهولة في خطاب له أفق التأويلي والدلالي مما يشكل خطاباٍ إبداعياٍ سهلاٍ ممتنعاٍ عميقاٍ في مضامينه من حيث الصورة والرمز والموقف العميق الصادق إضافة إلى الإنشغال بالهم الوطني والإنساني والذاتي ليكون خطاب الديوان خطاباٍ عاماٍ مدهشاٍ .
والديوان المقروء في هذه الإطلالة النقدية السريعة الموسوم بعنوان ( لا ظهر لي ) صدر عن الأمانة العامة لجائزة الرئيس للشباب في خمس وسبعين صفحة من القطع المتوسط ضم بين دفتيه اثنتين وثلاثين قصيدة انشغلت بالهم الوطني والإنساني والعاطفي والاجتماعي والشاعر وقد فاز بجائزة رئيس الجمهورية فرع الشعر في إحدى دوراتها .
وإذا قرأنا العنوان ( لا ظهر لي ) فإن المضمون يعكس دلالة انعدام المسند والحماية في زمن اعتمد على الحماية والسند علاوة عن نفي الوسيلة التي تمكنه من الوصول للآمال والأحلام بوصفها تفضي إلى الظهور وتعطي نوعاٍ من التعالي والزيف لذلك يقول:
” لا ظهر لي
كي أظاهر
أو أتظـاهر
أو أتمظهر ”
ليعكس العنوان أن الشخصية خلقت نفسها كما هي ولا تريد أن تكون زائفة متعالية خاوية وأيضاٍ لا يريد النص الظهور بوصفه قاصماٍ للظهور بل:
” أنا ظهرك
فانكسرت
قامتي في الظهور ”
ففي نص ” أرصفة لا تنام ” يقول النص:
” مدائننا …
تخرج الآن في زحمة الكائنات
مضرجة بالمآسـي
وموسومة بالهزيم المطرز بالموت
شاهرة جوعها في وجوه الأهالي
وقارئة بيان السياسة ” صـ 4
مما سبق يلحظ القارئ ثلاثية الخطاب الذي استمر النص في سرده في نسيج النصوص المختلفة وتتمثل الثلاثية مكابدة المآسي التي أفضت إلى ” الموت ” والذي يخلق صورة للمجاعة والفقر ” شاهرة في جوعها في وجوه الأهالي ” وكانت السياسية هي السبب بتلك المآسي والأوجاع ” قارئة بيان السياسة ” والتضرج بالمآسي صورة من صور التضحية التي يعانيها الناس من الاستبداد القاهر الذي يقتل الأحلام وجماليات الحياة .
” يعبر القهر كل صباح جديد
يوزع أحزانه للمحارات
يبسط أوتـاده
في عيون المرافئ
والطرقات ” صـ 5
فالتوزيع فيه نوع من السيطرة والعنوة والتعميم للأوجاع فتحول الجمال قبحاٍ وأحزاناٍ ومآسي ” يوزع أحزانه ” للمحارات , عيون المرافئ والطرقات ” لتتحول الحياة سوداوية قبيحة فتقتل الأحلام والآمال والمطامح .
” مدائننا …
يوأد الحلم فيها صبياٍ
بباب غواياتها تزهق الروح
من تعب الانتظار ” صـ7
والوأد قتل بالحياة وبتعمد وكأنه عارَ في المدينة الوطن فضلاٍ عن أن الروح تموت قبل معانقة الحلم . واستخدم النص ” الوأد , والإزهاق ” ليعبر عن الموت بطرق مختلفة بوصف الموت شامل ومعمم خاصة واليأس يحيط بالروح لانتظارها الحلم الذي لا يتحقق .
فكانت الحياة هي مقصد الحالمين بالمستقبل وبالحياة الكريمة وبوسائل الحياة:
” مدائننا …
كلما غازلتها يدَ
تستلذ الرغيف
وتحلم بالخبز
والماء ” صـ 6
لا حلم للإنسان من خلال خطاب النص إلا بالحياة ” فالرغيف والخبز ” من أحلام الفقراء والماء رمز الحياة والبقاء والاستمرار لكل الكائنات ” وجعلنا من الماء كل شيء حي ” لذلك كان خطاب النص يرسم معاناة الإنسان وهمومه وتطلعاته وأحلامه ليظهر النص صراع الخير والشر والقوي والضعيف .
” مدائننا
أهدت حصاد مواسمها
للبغـاة
وللطيبين البكاء ” صـ 8
مما سبق يمكن القول : إن صورة المدينة وهي اختزال للوطن حيث أن اللغة صورتها بأنها خصيبة الخير ” حصاد مواسمها ” ولكن ” للبغاة ” المتجاوزين لحد الظلم والبغي فكانت القسمة ضيزى
” وللطيبين البكاء ” مما يعكس صورة للتمايز والاستغلال
” وللطيبين البكاء ”
لذلك كأن نص الديوان رسم للمآسي والمكابدات التي رسمها النص باستمرارية عميقة مؤثرة في المتلقي .
” للوهم الوثير تزفه صحف الصباح
لصبحنا المغسول بالتنهيد
والوجع المديد ”
وإن كان الصبح مباشراٍ إلا أنه يمثل رمزاٍ للحياة الكريمة لذلك ارتبط بالألم ” المغسول بالتنهيد ” و ” الوجع المديد ” .
وإذا كانت اللغة هي الوعاء الذي يصب فيه المبدع مضمون رسالته ليعكسها على المتلقي بتأثير فإن النص تمكن من رسم رسالته من خلال سياقات النص يمكن للمتلقي أن يدرك رسالة النص والمقصد الذي يكمن وراء تراكيب اللغة بوصفها رموزاٍ لها أغراض ومقاصد .
” في قريتنا حقلَ يورق
يشرق في أشواق الأهـل
يقيم حرِ ” السوق الحر ”
وحرب ” عيال السوق ”
يقيهم وهم الهم
الهم ” الوطني ”
ذرائع قحط حقول القمح
مخاوف قحط النفط
النفط …
وأزمنة اللاما اااء ” صـ16
لو تأمل المتلقي النص يلحظ أن النص جاء بالجملة الاسمية ” في قريتنا حقلَ ” وقدم الخير ” في قريتنا ” ليحدد المكان الذي يشغل مساحة من الذاكرة وأن القرية هي الخير والإنتاج وجاء بتمام الجملة في ” حقلَ ” ليرمز إلى الخصوبة والخير ومحدودية الإنتاج لكن ذلك الحقل الذي يمثل الأمل فهو ” يشرق ” في أعماق ” أشواق الأهل ” ذلك الحقل ” يشرق ” و ” يقيم قريتنا السوق الحر ” فهذا يعني عن السوق ويحرر من التبعية الاقتصادية ولو عاد المتلقي إلى النص لوجد أن بداية جاء اسمية ” في قريتنا حقل ” ليعكس ثبات الصفة والخاصية المنتجة للقرية وخاصية الخصوبة وكذلك فهو أمل بل مخلص من السوق الحرة .