٣٠ نوفمبر.. ذاكرة وطن لا تنطفئ

محمد صالح حاتم

 

 

حين يطلّ الثلاثون من نوفمبر كل عام، تعود إلى الذاكرة واحدة من أعظم اللحظات الفارقة في تاريخ اليمن الحديث. إنه اليوم الذي غادر فيه آخر جندي بريطاني أرض الجنوب، ليُعلن اليمنيون ميلاد فجرٍ جديد بعد احتلال امتد أكثر من قرن وربع القرن. قد يبدو هذا اليوم للبعض حدثًا تاريخيًا عاديًا، لكنه في الحقيقة خلاصة مشوار طويل من النضال والكفاح، لم يأتِ صدفة ولا جاء نتيجة حسابات سياسية باردة، بل كان حصيلة دماء وجراح وصبر رجال آمنوا بأن هذه الأرض لا يليق بها إلا أن تكون حرة.
ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م كانت الشرارة الأبرز في هذا المسار، فبفضل رجال ردفان والضالع وأبين ولحج وعدن وشبوة وحضرموت والمهرة ارتفعت الراية التي أعادت ترتيب المشهد وفتحت الطريق نحو الاستقلال. لكنّ هذه الثورة لم تكن البداية، بل كانت القمة التي سبقتها سنوات طويلة من المقاومة المنسية، المقاومة التي لم تُكتب كما يجب، ولم تجد منصفًا يوثقها أو يحفظ أسماء أبطالها. هنا يظهر السؤال المؤلم: لماذا غاب تاريخ الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن بكل تفاصيله ووقائعه؟ ولماذا يبدو وكأن اليمنيين عاشوا 129 عامًا من الاحتلال دون مقاومة، وكأنهم صمتوا أو استسلموا؟ هذا غير منطقي ولا يتفق مع طبيعة الإنسان اليمني الذي لا يقبل الغزو ولا يمد يده للمحتل إلا على مقبض بندقية.
الحقيقة أن التاريخ لم يُكتب كما يجب، وأن أعوامًا طويلة من النضال طُمست عمدًا أو أُهملت، وأن الكثير من ثورات القبائل في شبوة وحضرموت والمهرة وسقطرى ولحج وأبين وعدن، لم تجد موقعًا لها في الكتب أو المناهج. وربما كان ذلك نتيجة مصالح سياسية، أو ضعف في التوثيق، أو تأثير قوى خارجية حرصت على تشكيل رواية ناقصة لا تُبقي في ذاكرة الأجيال إلا ما يريدونه هم. لكن مهما غُيّب التاريخ، تبقى ذاكرة الشعوب أقوى، وتبقى الأرض شاهدة على من مرّ عليها ومن قاوم لأجلها.
واليوم، ونحن نستعيد ذكرى الاستقلال، نجد أننا نعيش مشهدًا لا يختلف كثيرًا عما كان قبل عقود. فالمحافظات الجنوبية التي احتفلت يومًا برحيل آخر جندي بريطاني، تواجه اليوم أشكالًا جديدة من الوصاية والسيطرة، ولكن بوجوه مختلفة وأدوات مختلفة. فالسعودية والإمارات حاضرتان وكأنهما بريطانيا نفسها من جديد، ليس عبر جنودها بل عبر قواعدها وقواتها ومرتزقتها، وعبر محاولات التحكم بالموانئ والجزر والممرات البحرية والثروات النفطية والغازية. وكأنّ التاريخ يريد أن يعيد نفسه، ليذكّرنا بأن الاستقلال لا يكتمل بمجرد خروج المحتل من الباب ما دام قد أبقى له ألف نافذة ينفذ منها.
أبناء شبوة والمهرة وسقطرى وحضرموت وأبين ولحج وعدن والضالع، الذين قاوموا بالأمس، ما زالوا حتى اليوم يحملون الروح نفسها، روح الرفض، وروح الإصرار على أن هذه الأرض ليست للبيع ولا للارتهان، وأن الاستقلال ليس مناسبة للاحتفال، بل مسؤولية لمواصلة الطريق. إن ذكرى الثلاثين من نوفمبر ليست مجرد تاريخ على التقويم، بل هي تذكير دائم بأن الحرية لا تُمنح، وأن الاستقرار والسيادة لا تكتبها إلا الشعب نفسه، وأن الاحتلال مهما غيّر شكله ولغته وأدواته، سيظل احتلالًا.
وهكذا يبقى 30 نوفمبر1967م يومًا تتقاطع فيه الذاكرة مع الحاضر، وتعود فيه الأسئلة القديمة لتقف أمام مشاهد اليوم: هل يمكن لشعب صنع استقلاله أن يقبل الوصاية مجددًا؟ وهل يمكن لأرض قاومت 129 عامًا أن تخضع في زمن يعرف فيه الجميع قيمة الحرية؟ الإجابة نجدها في التاريخ نفسه، وفي وجوه الناس، وفي صمود اليمنيين الذين يعرفون أن الاستقلال الحقيقي ليس حدثًا مضى، بل شعلة يجب أن تبقى متقدة في الوعي والوجدان إلى أن يتحرر كل شبرٍ من هذا الوطن.

قد يعجبك ايضا