خارطة طريق وطنية بين الضرورة الاقتصادية ومقتضيات الواقع
التوطين الصناعي في اليمن.. من هشاشة الاستيراد إلى التمكين الإنتاجي
م / فهد حسن دهمش
لم يعد النظام الاقتصادي العالمي، خلال السنوات الأخيرة، يسير وفق الإيقاع المعتاد للاستقرار والنمو، بل دخل مرحلة اضطراب ممتد اتسم باضطراب سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الشحن والطاقة والسلع الأساسية إلى مستويات غير مسبوقة، في ظل تصاعد الصراعات الجيوسياسية واتساع النزعات الحمائية، ما أعاد تشكيل خريطة التجارة الدولية في بيئة يغلب عليها عدم اليقين والتقلب. وفي قلب هذا المشهد المتغير، أصبحت الاقتصادات الهشّة، وفي مقدّمتها اليمن، من أكثر الدول عرضة للصدمات الخارجية، بفعل القيود المفروضة على حركة التجارة وتعقيدات البيئة الإقليمية والدولية، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على مستويات المعيشة وكفاءة الأداء الاقتصادي.
فاليمن يعتمد على الاستيراد لتغطية نحو80٪ من احتياجاته الغذائية، فيما تمثّل الواردات الغذائية ما يقارب 88٪ من إجمالي المعروض الغذائي في البلاد. وقد بلغت قيمة واردات السلع خلال عام 2024 نحو 4.35 مليار دولار أمريكي، ضمن نطاق تراوح بين 4.3 و4.5 مليار دولار خلال عامي 2023–2024.
وفي المقابل، لا تزال مساهمة القطاع الصناعي محدودة للغاية مقارنة بحجم الاقتصاد المنهك؛ إذ لم تتجاوز نسبته نحو 11.8 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في سنوات سابقة. وقد عمّق هذا الواقع فجوة الاعتماد على الخارج، ووسّع عجز الميزان التجاري، وفاقم هشاشة البنية الاقتصادية الوطنية.
ومع غياب بيانات رسمية مكتملة لعام 2025 حتى الآن، تؤكد مؤشرات وتقارير المنظمات الدولية استمرار اعتماد الاقتصاد اليمني على الواردات، ولا سيّما في الغذاء والوقود والسلع الأساسية، بالتوازي مع تراجع القدرة الإنتاجية المحلية، ما يبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة الاعتبار لقيمة العمل والإنتاج، واستعادة قدر من السيادة الاقتصادية.
التوطين الصناعي… ضرورة لا خيار
لم يعد التوطين الصناعي في اليمن مجرد توجه اقتصادي أو شعار إعلامي، بل تحوّل إلى قضية وجودية تمس الأمن الاقتصادي والاجتماعي والإنساني على حدّ سواء. فالصناعة الوطنية لم تعد قطاعًا مكمّلًا للنشاط الاقتصادي، بل غدت أحد أهم أدوات الصمود، وخط الدفاع الإنتاجي الأول في مواجهة الانكشاف للسلع الخارجية والاعتماد المفرط على الاستيراد.
لقد اعتمد الاقتصاد اليمني لعقود على الواردات لتغطية معظم احتياجاته، في حين تراجع الإنتاج المحلي بفعل مجموعة من العوامل البنيوية، أبرزها: تدهور البنية التحتية، شح الطاقة والوقود، ضعف البيئة الاستثمارية، هجرة رأس المال والكفاءات، وتداعيات الحرب الممتدة والحصار المطبق. ومع تصاعد الأزمات العالمية، تحولت فاتورة الاستيراد إلى عبء ثقيل، وتراجع الدخل الحقيقي للأسر، واتسعت رقعة الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وفي هذا السياق، يصبح التوطين الصناعي مشروعًا وطنيًا استراتيجيًا يهدف إلى تقليص التبعية الخارجية، وتعظيم القيمة المضافة المحلية، وبناء قاعدة إنتاجية قادرة على الصمود والاستدامة.
مسار تراكمي من الدعم إلى التمكين
لا يتحقق التحول الصناعي بقرارات منفردة، بل من خلال مسار تراكمي متدرّج يقوم على أربع مراحل مترابطة:
1-مرحلة الدعم
تركّز على منح المنتج المحلي أولوية في المشتريات الحكومية، وتنفيذ حملات التوعية، وإقامة المعارض الصناعية، وتعزيز ثقة المستهلك بالمنتج الوطني.
2- مرحلة التعزيز
تشمل رفع الكفاءة الإنتاجية، وتحسين الجودة والمواصفات، وتأهيل الموارد البشرية، وتحديث خطوط الإنتاج، وتطوير أساليب الإدارة والتسويق.
3-مرحلة الحماية الذكية والمؤقتة
تعتمد على أدوات جمركية وتنظيمية مدروسة لحماية الصناعة المحلية من المنافسة غير العادلة، في إطار زمني واضح وموجّه لرفع القدرة التنافسية.
4-مرحلة التمكين
تنتقل فيها الصناعة إلى الاستقلالية والتنافس إقليميًا ودوليًا عبر توطين التكنولوجيا، وتكامل سلاسل القيمة، وربط التعليم بسوق العمل، وتوسيع القدرة التصديرية.
بين الطموح والواقع: مخاطر التسرّع
إن تبنّي سياسات توطين متعجّلة في بيئة غير مهيأة قد يؤدي إلى اختلالات خطيرة، تتمثل في نقص السلع، وارتفاع الأسعار، وظهور الاحتكار والسوق السوداء، وتدهور الخدمات الأساسية. وخاصة أن قطاع واسع من السكان يعاني من ضعف الدخل وانعدام الأمن الغذائي، فإن أي اضطراب بسيط في ميزان العرض والطلب قد يتحول إلى أزمة إنسانية شاملة. إن فشل إدارة هذا المسار قد يقوض الثقة بالسياسات الصناعية ويحوّل التوطين من أداة للنهوض إلى عامل من عوامل الانكماش، مما يجعل التدرّج والتخطيط العلمي المدروس وبناء القدرات المؤسسية شروطًا غير قابلة للتجاوز.
بين الطموح والمعوقات
تواجه عملية التوطين الصناعي في اليمن تحديات بنيوية عميقة، من أبرزها:
غياب استراتيجية صناعية وطنية واضحة، وضعف البنية التحتية (الطاقة، المياه، الطرق، والمناطق الصناعية)، ونقص الكفاءات الفنية، وصعوبة التمويل، وارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج، ومحدودية البحث والتطوير، والمنافسة غير العادلة للمنتجات المستوردة.
ومع ذلك، فإن هذه المعوقات تجعل من التوطين ضرورة أكثر إلحاحًا، وتفرض تبني مقاربة شاملة تقوم على إعادة بناء القاعدة الصناعية، وتنمية رأس المال البشري، وتحفيز القطاع الخاص، وتهيئة بيئة تشريعية واستثمارية جاذبة، وتعزيز الشراكات الوطنية والدولية في مجالات التدريب ونقل التكنولوجيا.
تكوين العناقيد الصناعية: حجر الزاوية في التوطين
تمثّل العناقيد الصناعية أحد أكثر النماذج فاعلية في تنظيم النشاط الصناعي وتعزيز القدرة التنافسية، إذ يقوم العنقود على منظومة إنتاجية مترابطة تضم منشآت صناعية، ومورّدين، ومقدّمي خدمات، ومؤسسات تدريب وبحث ضمن نطاق جغرافي محدد، بما يرفع الكفاءة، ويخفض التكاليف، ويحفّز الابتكار، ويُعمّق الروابط الأمامية والخلفية داخل سلاسل القيمة.
وانطلاقًا من التنوع المناخي والجغرافي الذي تتميز به اليمن، يمكن تطوير عناقيد صناعية متخصصة تراعي الميزة النسبية لكل منطقة صناعية، على النحو الآتي:
• المناطق الساحلية (البحر الأحمر – خليج عدن – بحر العرب): عناقيد للصناعات السمكية والغذائية، بالاعتماد على وفرة الثروة البحرية وإمكانات التصنيع والتعليب والتبريد والتصدير.
• المناطق الزراعية والمرتفعات الخصبة: عناقيد للصناعات التحويلية الزراعية كتصنيع البن والحبوب والبقوليات والفواكه المجففة والعسل، بما يعزز القيمة المضافة ويقلل الفاقد الزراعي.
• مناطق توافر المواد الخام: عناقيد لصناعات مواد البناء والإسمنت والسيراميك ومنتجات المحاجر، دعمًا لقطاع التشييد والبنية التحتية.
• المدن الكبرى ومراكز النقل والاستهلاك: عناقيد للصناعات الخفيفة والمتوسطة، والصناعات البلاستيكية والدوائية البسيطة، إلى جانب الخدمات الصناعية المساندة واللوجستيات.
• المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية ذات الإشعاع العالي: عناقيد لصناعات الطاقة المتجددة، ولا سيما الطاقة الشمسية، المرتبطة بالأنشطة الصناعية والزراعية.
ويُسهم هذا التوزيع المكاني للعناقيد الصناعية في تحويل الصناعة من نشاط متشتّت إلى نظام إنتاجي متكامل، قادر على توليد فرص العمل، وتعظيم القيمة المضافة، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز التنمية الإقليمية المتوازنة والاستقرار الاقتصادي عبر مختلف مناطق اليمن.
التوطين… طريق المستقبل
في ظل ما يعانيه اليمن من إنهاك اقتصادي وارتفاع مستوى الانكشاف أمام المتغيرات الخارجية، لم يعد التوطين الصناعي خيارًا مؤجلًا، بل أصبح ضرورة وطنية ومصيرية. فالدول لا تُبنى بالاستهلاك، بل بالإنتاج، ولا تُصان بالتبعية، بل بالاكتفاء وتعظيم القدرات الذاتية.
إن التوطين في اليمن ليس مجرد إنشاء مصانع، بل هو استعادة للكرامة الاقتصادية، وإحياء لقيمة العمل، وبناء مسار تنموي مستقل قادر على الصمود في وجه الأزمات.
صُنع في اليمن… منتج وطني يصنع النصر
ليس مجرد شعار، بل رؤية استراتيجية تعيد توجيه بوصلة الاقتصاد من التبعية إلى الإنتاج، ومن الاستهلاك إلى القيمة المضافة. فكل سلعة تُنتَج محليًا هي خطوة نحو تقليص العجز، وخلق الوظائف، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. ومع كل مصنع يعاود العمل، يُبنى أساس أكثر صلابة لاقتصاد وطني قادر على الصمود والمنافسة.
ففي زمن الأزمات، يصنع اليمنيون نصرهم بأيديهم… من خلال ما يُنتَج على أرضهم وبسواعدهم.
· وكيل مصلحة الضرائب والجمارك المساعد للقطاع المالي والإداري
