أي خيارات سيعتمدها الجيش السوداني لمواجهة شبح التقسيم ؟
مقترحات «الرباعية» قد تعزز مخطط سلطة الأمر الواقع
لاتزال تداعيات سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع تلقي بظلال كثيفة على تفاعلات المشهد السوداني سياسيا وعسكريا واقتصاديا بعد ما ادى سقوط المدينة الاستراتيجية الحدودية إلى تداعيات ظهر معها بوضوح شبح التقسيم بمشروع قوات الدعم السريع وحلفائها السياسيين في حكومة موازية تقسم السودان إلى دولة بحكومتين على غرار السيناريو الليبي.
تحليل / أبو بكر عبدالله
من بين ركام التداعيات السياسية والعسكرية والإنسانية التي تلت سقوط مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور بيد قوات الدعم السريع نهاية أكتوبر الماضي، برز سيناريو تقسيم السودان كواحد من أهم التحديات التي تواجه مجلس السيادة الانتقالي برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان بعد عامين ونصف من الحرب التي خلفت خسائر بشرية ومادية فادحة وأكبر أزمة نزوح وجوع على مستوى العالم.
سيناريو التقسيم الذي أطل بقرونة بعد سقوط مدينة الفاشر، لم يكن جديدا على مشهد الأزمة السودانية فنذره بدأت في مايو الماضي بتشكيل تحالف «تأسيس» الذي جمع قوات الدعم السريع وبعض القوى السياسية وأفضى إلى تشكيل مجلس رئاسي وحكومة موازية، واكتملت فصوله نهاية أكتوبر الماضي بسيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر وشروعها بالتحرك شرقا نحو ولايات كردفان والنيل الأبيض، بما يمكنها من فصلها سياسيا وعسكريا بسلطة سياسية وحكومة موازية مستقلة.
والعمليات الأخيرة التي خاضتها الدعم السريع بعد سقوط الفاشر، أفصحت عن عزمها أحكام السيطرة على المناطق الرخوة في شمال وغرب وجنوب كردفان وولاية النيل الأبيض، غير أن الجيش السوداني بدا مستوعبا لهذه الأهداف ووجدناه يتصدى لمحاولات الدعم السريع التوغل في مدن الإقليم ولاسيما التي تربط إقليمي دارفور وكردفان بالعاصمة الخرطوم وغيرها من المدن الغنية بموارد النفط والتي تحاول قوات الدعم السريع السيطرة عليها لتكون رافعتها الاقتصادية في مشروعها لتقسيم السودان سياسيا بحكومة موازية ومجلس رئاسي مستقل.
أولويات استراتيجية
رغم الزلزال الذي أحدثه سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع، إلا أن الموقف العسكري الميداني لا يزال مرجحا لصالح قوات الجيش التي تبسط سيطرتها على 13 ولاية في الشمال والجنوب والشرق والوسط بما فيها العاصمة الخرطوم من بين 18 ولاية تشكل جغرافيا السودان، في حين تسيطر قوات الدعم السريع على ولايات إقليم شمال دارفور الخمس عدا بعض الأجزاء الشمالية ومناطق من ولايتي جنوب وغرب كردفان.
ومنذ سقوط الفاشر، كانت التقديرات تُرجح تأجيل الجيش السوداني معركته في هذه المدينة الاستراتيجية في الوقت الراهن، كون الانشغال بها سيترك فراغات في جبهات حاسمة تعيش الظروف نفسها التي عاشتها مدينة الفاشر قبل إسقاطها وتخطط قوات الدعم السريع لتحقيق إنجازات فيها ولو كانت صغيرة في إطار مشروعها بفرض التقسيم كأمر واقع.
ذلك أن المجازفة في حرب استعادة إقليم دارفور أو حتى عاصمته الفاشر حاليا ستكون بالغة الكلفة، في ظل تحديات كبيرة قد يواجهها الجيش لاستعادة الإقليم المترامي الأطراف ولا سيما عاصمته التي تحولت إلى مركز قيادة رئيسي لقوات الدعم السريع بسبب موقعها الاستراتيجي، الذي جعل منها منفذا رئيسيا لخطوط الامداد من خارج الحدود.
يزيد من ذلك الخصائص الجغرافية للإقليم والتي بدت غير مواتية للجيش، كونها تقع ضمن منطقة مغلقة يصعب معها تأمين خطوط إمداد برية ناهيك بالتقاطعات التي يمثلها تداخل القبائل والمصالح الاقتصادية والحدودية.
وفوق ذلك فإن التقديرات كانت تؤكد أن قوات الدعم السريع ستحشد كل مواردها من اجل استمرار سيطرتها على الفاشر وبقية مدن إقليم شمال دارفور بالاستفادة من حاضنتها الشعبية وستعمل ما بوسعها لنقل الحرب إلى ولايات كردفان والنيل الأبيض، بما يمكنها من أحكام تمركزها في كل مناطق الإقليم الغربي الحدودي.
الحكومة الموازية
يمكن القول إن الطموحات السياسية لقائد قوات الدعم السريع وحلفائها السياسيين في السيطرة العسكرية وإنتاج حاضنة سياسية عسكرية عبر ما سمي تحالف السودان التأسيسي (تأسيس) الذي أعلن عنه قبل أشهر برئاسة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) لا يزال يمثل أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة السودانية في الأيام القادمة.
وخلال الفترة الماضية، شكّل هذا المجلس حكومة موازية برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق محمد حسن التعايشي وحدد فترة تأسيسية مدتها 10 سنوات بعد الحرب لإعادة بناء الدولة، والعمل على إنشاء «مركز قيادي عسكري موحد» يضم قادة الفصائل المسلحة لمواجهة الجيش السوداني وسلطة مجلس السيادة الانتقالي وإعلان حكومة موازية في جنوب وغرب السودان.
وكل المعطيات تشير إلى أن مخطط التقسيم لم يكن سودانيا 100% فالدعم السريع وداعميها الإقليميين والدوليين وجدوا أنفسهم في مأزق سياسي كبير بعد النجاحات العسكرية التي حققها الجيش واستعاد فيها مناطق استراتيجية كالعاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وسنار وغيرها، ما جعلهم يستلهمون النموذج الليبي من خلال فصل إقليم شمال دارفور وأجزاء من إقليم شمال كردفان لتكون مناطق نفوذ سياسي وعسكري يفصل شمال السودان عن جنوبه.
كان واضحا أن تشكيل مجلس رئاسة وحكومة موازية من قوات الدعم السريع وحلفائه، استهدف تحويل الوجود العسكري للدعم السريع إلى سلطة سياسية واقتصادية قابلة للاستمرار، أملا في الحصول على اعتراف دولي يحول الدعم السريع من جماعة مسلحة متمردة إلى حكومة معترف بها، أو على الأقل طرف سياسي وازن في أي تسوية سياسية مستقبلية.
كما استهدفت هذه الخطوة خلق إطار سياسي عسكري يمكّن الهيكل السياسي والعسكري الجديد من السيطرة على الموارد الاقتصادية وخصوصا مناجم الذهب المنتشرة في مناطق «المثلث» الحدودي لضمان تدفق الموارد المالية وتعزيز استقلالية الحكومة الموازية، وتمكينها من فتح قنوات خارجية تضمن لها تحقيق أهدافها السياسية مقابل مصالح اقتصادية.
منعطفات الرباعية
في مقابل الفظائع التي شهدها السودان في جولة الحرب الأخيرة بالفاشر والتي تورطت فيها قوات الدعم السريع بإعدام آلاف المدنيين بدوافع قبلية وعرقية، كانت تحركات الرباعية الدولية التي أعلنت مؤخرا مشروعا لهدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر تُفتح فيها ممرات إنسانية لإيصال المساعدات وتسهيل عودة المدنيين إلى الحياة الطبيعية من اهم التداعيات على المسارين السياسي والدبلوماسي.
وقد تضمن مقترح الرباعية عملية سياسية تستمر 9 أشهر يطلق خلالها حوار مدني بقيادة سودانية للوصول إلى تسوية شاملة للنزاع والاتفاق على دستور وآليات لتشكيل الحكومة والبرلمان وإنشاء حكومة مدنية ذات شرعية مع استبعاد جماعة الإخوان المسلمين من أي دور سياسي مستقبلي في السودان.
وفي حين أعلنت قوات الدعم السريع موافقتها على المقترح واستعدادها لمناقشة ترتيبات وقف النار، أعلنت الحكومة والجيش السوداني رفض المقترح، وهو موقف بدا متساوقا مع المبادئ التي دائما ما تعلنها الحكومة السودانية بالترحيب بأي حل يحافظ على سيادة الدولة «ولا يساوي بين الجيش الوطني والميليشيات المتمردة».
وموقف الحكومة السودانية والجيش من مقترح الرباعية، كان متوقعا بكونه يوفر دعما لتوجهات الدعم السريع وحلفائه السياسيين في تشكل سلطة سياسية وعسكرية موازية في مناطق سيطرتها والاستفادة من الهدنة للتعافي وإعادة التحشيد ولترتيب أوضاعها العسكرية والسياسية وتعزيز مواقعها الميدانية.
ورغم أن مبادرة الهدنة استهدفت إنقاذ الأرواح وتلبية الاحتياجات الإنسانية الكارثية بصورة عاجلة، إلا أن ما أثار الشكوك حولها أنها جاءت متأخرة بعد أن تمكنت الدعم السريع من السيطرة على الفاشر وهي العملية التي حسنت إلى حد كبير موقفها في أي مفاوضات سياسية مقبلة، ووضعتها في موقع قوة يعزز من شرعتها التفاوضية ويدعم مطالبها السياسية.
زاد من ذلك أن المقترح السياسي المصاحب لمشروع الهدنة تحدث عن عملية سياسية مدتها 9 أشهر، وهو أمر يمكن أن يفسح المجال لترسيخ مشروع الدعم السريع وحلفائه في تقسيم السودان بحكومتين في شمال السودان وجنوبه، كأمر واقع.
ومن جهة ثانية، فإن النص الصريح الذي حمله مشروع الهدنة بإنهاء أي دور لجماعة الإخوان المسلمين في المستقبل، بدا كارثيا بالنسبة لمجلس السيادة الانتقالي، كونه سيدمر الطرف الحكومي ذاتيا وفي أقل الأحوال سيمنح الدعم السريع فرصا لإقصاء كل خصومها السياسيين والعسكريين، سواء كانوا من المتهمين بالانتماء للجماعات الإسلامية أم المستقلين، كما سيمنح الدعم السريع فرصة لإضعاف الجيش من خلال تفكيك القواعد الشعبية والقبلية التي دعمت الجيش خلال الفترة الماضية ولعبت دورا حاسما في تغيير المعادلات العسكرية لصالح الحكومة والجيش.
مخاوف وصفات
بعد أكثر من عامين ونصف على الحرب، لم يعد خافيا شعور الخرطوم بثقل احتكار ملف التسوية السياسة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها خصوصا وأنها دائما ما تربط الحلول السياسية بمصالح هذه القوى، حتى لو تصادمت مع المصالح السيادية الوطنية واستقلال القرار الوطني.
ومشروع الهدنة الجديد المقدم من الرباعية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، لن يكون بعيدا عن ذلك خصوصا مع وجود بعض الأطراف الإقليميين التي تتهمها الخرطوم بدعم قوات السريع بالسلاح والمرتزقة ضمن طاولة صياغة مقترحات الحل السياسي وإدارة المفاوضات.
وما تخشاه الحكومة السودانية حاليا هو أن يؤدي مقترح الهدنة إلى توفير استراحة محارب لقواتها المنهكة في جبهات شمال كردفان تمكنها من تعزيز حضورها الميداني، كما تخشى أن يقود المسار السياسي للمشروع إلى خدمة مصالح قوات الدعم السريع وحلفائها السياسيين، بمنح الهياكل السياسية (مجلس الرئاسة والحكومة الموازية) التي تم تشكيلها مؤخرا الاعتراف الدولي كسلطة شرعية، والتعامل مع قوات الدعم السريع كطرف مساو للجيش السوداني في المفاوضات.
وفضلا عن ذلك، فهناك مخاوف من أن تقود مفاوضات الأمر الواقع، إلى استخدام الدعم السريع سلاح الذهب لتحقيق مكاسب سياسية وتشكل خارطة سودانية جديدة بصورة يصعب تغييرها مستقبلا.
أثبتت تجارب عامين ونصف من الحرب أن هذا السلاح منح قوات الدعم السريع مركزا متقدما وقدرة على اللعب بأوراق المعادلة العسكرية خلال الفترة الماضية وغير بعيد استخدامه الآن للحصول على شرعية دولية تقوض سلطة مجلس السيادة الانتقالي والحكومة الشرعية، وتدمير ما تبقى من الجيش السوداني وحاضنته الشعبية.
ومخزون الذهب في السودان هو الذي حوَّل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دوقلو من راع للإبل إلى قائد عسكري برتبة فريق، وهو ما مكنه من بناء علاقات استراتيجية مع قوى من خارج الحدود والذي طالما حلم بدعم من قوى داخلية بما يمكنه من القضاء على ما تبقى من نفوذ الإخوان في مقابل إبقاء الطرف الآخر حنفية الذهب المهرب مفتوحة لعقود قادمة.
ولعبة المصالح الدولية وصراع الاستحواذ على مخزونات مناجم الذهب في السودان، لا شك ستكون حاضرة في الفترة القادمة، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي يعدها قائد الدعم السريع بمصالح مالية من مناجم الذهب السوداني، وكذلك إسرائيل التي يُعلن على الدوام استعداده التطبيع معها على أعلى المستويات، بل وربط مصالحها بمصالح دولته المنتظر إعلانها على وادي الذهب.
هذا بالضبط ما جعل القيادة السودانية تتمهل في إعلان القبول الهدنة المقترحة من الرباعية، في مقابل تفعيل المسار السياسي الدبلوماسي في ظل لهث الكثير من القوى الإقليمية والدولية وراء ثالث أكبر مخزون من الذهب في العالم خصوصا في ظل مشاكل التضخم التي تعصف بدول العالم، وحرص كثير من المصارف المركزية على اقتناء الذهب بوصفه الملاذ الآمن بعد أن تجاوز سعر الآونصة رقما يسجل لأول مرة في التاريخ.
