ما زالت هناك نُخَب تَتَغَنَّى بديمقراطية أمريكا انطلاقاً من مظاهرها الشكلية فقط، دون أن تتعمق في جوهرها الحقيقي. إنها، كما وصفها المفكر الاقتصادي الراحل د. سمير أمين، “ديمقراطية السقف الواطئ”؛ ديمقراطية أوليغارشية حاكمة تدفع إلى سُدَّة القرار مَنْ يُعزز هيمنة طبقة الأثرياء فحسب. وحتى عندما يُختار شخصيات من “المُلَوَّنين” أو من قاع المجتمع، فإن الاختيار يتم بعناية فائقة، شريطة أن يظل هؤلاء حُرَّاساً لأصول النظام ومصالح تلك الأقلية الثرية.
فالنظام الانتخابي الأمريكي مُؤَسَّسٌ هيكلياً على نظام الحزبين، وكلاهما يعبِّران في النهاية عن مصالح الأثرياء. هذا النظام ليس سوى مضمار منافسة محصور بين الحزبين، يُنَظِّم إيقاع الصراع والتفاهم بين النخب المالية المسيطرة.
صحيح أن أحداث غزة قلبت الموازين وأسهمت في تشكُّل وعي جديد داخل المجتمع الأمريكي، لكن لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن تغيير حقيقي في السياسات. الأيام القادمة تحمل في طياتها بذور صدام بين هذا الوعي الجديد الآتي من قاع المجتمع، وبين الأوليغارشية المسيطرة التي تحتكر القرار بقوة رأس المال والإعلام، والتي تُشَكِّل ما يُعرف بالدولة العميقة.
وإذا ما انتصر “القاع” يوماً ما على هذه الأوليغارشية، فإن فضل هذا الانتصار سيعود، في المقام الأول، لتضحيات أهل غزة ولبطولات “طوفان” الأقصى ولمحور المقاومة بكل شهدائه الأبرار.
ولن يكون أي انتصار مُجْدياً إذا اقتصر على تبديل الوجوه بينما بقيت السياسات كما هي؛ أي إذا تحولت غزة إلى سُلَّم لصعود قيادات شابة جديدة، بينما استمرت الديمقراطية ذات “السقف الواطئ” في تمثيل مصالح الأوليغارشية ذاتها، وإعادة إنتاج نفس السياسات العدوانية.
فلهذا أقول: أيها النُخَب.. لا تنبهروا بالشكليات، فهي لا تنتج سوى وعي زائف. وعليكم التريث وانتظار اكتمال المشهد قبل إصدار الأحكام.
ولنتذكر معاً ذلك الزخم التفاؤلي الذي رافق صعود باراك أوباما إلى الرئاسة، وكم تحدثنا عن دلالة أصوله وديانته، وعن “ديمقراطية أمريكا اللذيذة”، لنجد أن أوباما لم يكن في النهاية سوى خاتم في يد اللوبي الصهيوني المهيمن على القرار الأمريكي. ولم تختلف سياسة أمريكا في عهده، بل لعلها كانت أكثر عدوانية من أسلافه.
لذا، فإن الأحكام المتسرعة ليست من العلم في شيء، وهي علاوة على ذلك تنتج وعياً زائفاً وضاراً بالمجتمع.
