لأن فلسطين باقية والفلسطينيين باقون على أرضهم، مهما بلغ بهم من التهجير والتقتيل، لكنهم صامدون صمود الجبال الرواسي على أرضهم، محافظون على تراثهم وثقافتهم، موثقون كل ما يجري في حياتهم اليومية، كاشفون للعالم وللأجيال الحالية والقادمة جرم الكيان الصهيوني، وحالة الفلسطيني داخل أرضه وفي الشتات ومعاناته المستمرة حتى يتم تحرير البلاد كل البلاد.
يعتزم الكاتب والأديب الفلسطيني محمود شقير إصدار الجزء الثالث الأخير من سيرته تحت عنوان “هامش أخير” ليستوفي ما كان ناقصاً في الجزأين الأولين من سيرته المنشورة: “تلك الأزمنة” و”تلك الأمكنة”، وستصدر عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان في بيروت.
في عناوين كثيرة وقصيرة تشبه فصولاً وبأسلوب هادئ ولغة واضحة تموج بين الإمتاع والتأمل والطرافة، يعرّي شقير ذاته دون أقنعة أمام القارئ، بلا عقد ولا خوف من مواجهة ذاته بصدق وجرأة.
تحضر القدس كثيفة رئيسة في الكتاب، وكمدينة صاغت شخصية الكاتب وجزء من مادة شقير الأدبية، وجزء من روحه ووعيه ويُضيء بعجالة على وضعها الحضاري قبل النكبة وأحوالها الثقافية، ثم تحولها مع توالي النكسات.
في هذه السيرة، تلويحات وفاءٍ لأسماء أدبية وأصدقاء مروا في حياة الكاتب وهم كثر، واحتفاء وتقدير للمرأة وأدوارها في المجتمع، وذكر لمدن وأمكنة زارها داخل فلسطين وخارجها، كبيروت ودمشق، الجزائر وبلغاريا، وإسطنبول، وبراغ، وفي آخر الكتاب ملحق فيه معايدة لكتاب بعيد ميلاد الكاتب الثمانين، وشهادات في كتابته تبدو السيرة كأنها تاريخ ثقافي وسياسي وتاريخي المرحلة مهمة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى اليوم.
ولد محمود شقير في القدس، 1941م، وهو يكتب القصة والرواية للكبار والفتيان أصدر حتى الآن خمسة وثمانين كتاباً، وكتب ستة مسلسلات تلفزيونية طويلة وأربع مسرحيات ترجمت بعض كتبه إلى اثنتي عشرة لغة تشمل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والسويدية والفارسية والتركية حاز جوائز عديدة، من بينها جائزة محمود درويش للحرية والإبداع (2011)، جائزة القدس للثقافة والإبداع (2015)، جائزة دولة فلسطين في الآداب (2019) جائزة الشرف من اتحاد الكتاب الأتراك (2023) جائزة فلسطين العالمية للآداب (2023).
تنتقل بين بيروت وعمان وبراغ، ويقيم حالياً في القدس.
فيما يلي مقتطف من كتاب “هامش أخير” للأديب محمود شقير:
هي ذي القدس قدس البشر
قدس شغيلة مرهقين
وضحايا الحنين
في صلاة المساء الحزين.
(سميح القاسم)
هي القدس
هي المدينة التي شكلت حياتي وصاغت شخصيتي هي كل ما له قيمة في حياتي وهي التي تظهر دوما في كتاباتي القصصية والروائية وفي سيرتي الذاتية، وفي الكتابة عن شخصيات وطنية تقدمية كان لها دور ريادي في المدينة.
والقدس تظهر في كتاباتي لا من باب التقصد والادعاء، بل من باب الضرورة التي يفرضها منطق العمل الأدبي، بوصفها جزءاً من مضمون المادة الأدبية التي أكتبها، القدس هي حاضنة الروح، وهي التي تنعش قلبي ووجداني وتجعلني متمسكا بأهداب الحياة مستبشراً بالمستقبل مهما كانت الصعوبات.
في أثناء مكوثي في السجن الإسرائيلي كنت أتذكر أيامي في المدينة، فأزداد تعلقاً بها وحباً لها، وقلقاً عليها من محاولات التهويد.
وأنا بعيد عنها صرت أرى مجرد المشي في شوارعها أو الجلوس في مقاهيها ومطاعمها يكتسب قيمة أكيدة، ولا بد من الإكثار من ذلك وعدم ترك أي بقعة فيها من دون زيارة لها وتمعن في تفاصيلها. في البعد عنها صارت أكثر قرباً من نفسي، وصرت أمني نفسي وتنتبه من الاهتمام بها وعدم تضييع أي فرصة لجعلها أقرب إلى نفسي وإلى أيام حياتي، أما علاقتي بها في سياق الكتابة والأدب والإبداع فهي امتداد لعلاقتي الوطنية بها ولانتمائي لها بصفتي مواطناً فلسطينياً.
كتبت عنها قصصاً وروايات ونصوصاً، استوحيت من مأساتها ومن محاولات تهويدها كثيراً مما كتبته عنها، كتبت عنها للأطفال وللفتيات والفتيان، وكتبت عنها للكبار، ظهرت القدس في كتاباتي المختلفة في أكثر من عشرين كتاباً، ومؤخراً ظهر كتابي “القدس وحدها هناك” مترجماً إلى اللغة التركية، وكان قد ترجم من قبل إلى اللغتين الإنجليزية والسويدية، ومن كتبي التي كتبتها عنها بعد عودتي من المنفى “ظل آخر للمدينة”.
ورد ذكر القدس على نحو واسع في روايتي الأولى “فرس العائلة”، وفي روايتي الثانية “مديح لنساء العائلة” التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، وفي روايتي الثالثة “ظلال العائلة”، والرابعة “منزل الذكريات”، ثمة ذكر شامل للقدس، لشوارعها وأزقتها وأسواقها وأحيائها المختلفة.
القدس والظل الآخر
كان أول كتاب لي بعد العودة هو “ظل آخر للمدينة”، وقد تعددت الآراء والتصنيفات حوله، أميل إلى عدّه نصاً مفتوحاً قادراً على استيعاب أجناس أدبية عديدة في وقت واحد، هو ليس رواية بالتأكيد، لكنه يستفيد من تقنيات الكتابة الروائية، وهو ليس كتاب يوميات أو مذكرات، لأن ما فيه من سرد ومن شخوص ومن وصف للمكان، وما فيه من بعض جوانب لسيرتي الذاتية التي توضح علاقتي بالقدس وعلاقة القدس بي، يفيض عن شكل اليوميات ومحتواها مثلما يفيض عن شكل المذكرات ومحتواها.
في ظني أن هذا الكتاب يظل قابلاً لأن تقرأه الأجيال الجديدة من الفلسطينيين والفلسطينيات، ومن العرب المعنيين بفترة من الفترات الحاسمة التي عاشتها وما زالت تعيشها القدس، وربما لهذا السبب أنجزت دار محمد علي التونسية في صفاقس طبعة ثانية من هذا الكتاب الذي أعتز به وأعده من كتبي المميزة.
معاناة المدينة
ما تعرضت له القدس من جراء كارثة 1948م كان فادحاً بكل المقاييس، فقد كانت القدس قبل الكارثة تسير على درب الحداثة بخطى معقولة إلى حد ما، كانت مدينة منفتحة على الدنيا وعلى الثقافات، يأتيها الفنانون والمثقفون والأدباء من مصر ولبنان وشرق الأردن والعراق، وكان فيها أدباء منفتحون على الثقافة الحديثة، وفي طليعتهم على سبيل المثال خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي. وكانت في المدينة نخبة من الطبقة الوسطى التي تعيش حالة من التمدن ومن مواكبة العصر والانتماء للحداثة، رغم نفوذ العائلات المتنافسة على الزعامة، ورغم قيود الانتداب البريطاني ومخاطر الغزو الصهيوني الوافدة.
حين وقعت النكبة، قسمت القدس وانهار المجتمع، وتشردت النخبة المتعلمة التي كانت تتمركز في أهم حيين من أحياء الجزء الغربي من المدينة، هما القطمون والطالبية، وتبعاً لذلك انهارت الحداثة الناشئة في المدينة واحتاج الجزء الشرقي من القدس إلى سنوات غير قليلة لينهض من جديد.
وعندما وقعت هزيمة يونيو 1967م تم الإطباق على الجزء الشرقي من المدينة، وجرى تبديد الحياة الثقافية التي كانت تترعرع فيها، وتم خنق التطور العمراني فيها، وحتى هذا الخنق وتفاقم حين تم فصل القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني من خلال جدار الفصل. وجرى زرع أكثر من ثمانين بؤرة استيطانية في قلب البلدة القديمة داخل السور، علاوة على تطويق المدينة بسلسلة من المستوطنات الإسرائيلية، وجرى ويجري بمختلف الوسائل والأشكال فرض المناهج الإسرائيلية في مدارس القدس بديلاً من المنهج الفلسطيني.
والأديب محمود شقير المقيم حالياً في القدس ومتفرغ للكتابة، وهو من مواليد جبل المكبر/ القدس 1941 – حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع_ جامعة دمشق 1965 – نائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الهيئة الإدارية للرابطة لمدة عشر سنوات 1977 _ 1987.
– عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين 1987 _ 2004.
– عضو المجلس الوطني الفلسطيني 1988 – 1996.
– رئيس تحرير صحيفة الطليعة المقدسية الأسبوعية 1994 _ 1996.
* مشرف عام مجلة دفاتر ثقافية الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية 1997 _ 2000 * محرّر الشؤون الثقافية في مجلة صوت الوطن الصادرة في رام الله 1997 _2002 .
* ابتدأ الكتابة سنة 1962 ونشر العديد من قصصه القصيرة في مجلة الأفق الجديد المقدسية.
* عمل محرّراً للشؤون الثقافية في صحيفة الجهاد المقدسية، ثم القدس 1965 _ 1967.
* عمل في صحيفة الرأي الأردنية محرّراً لشؤون الأرض المحتلة 1978 _ 1980.
* عمل في صحيفة الرأي الأردنية كاتباً لمقالة أسبوعية 1991 _ 1993.
حائز على جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة العام 1991.
-حائز على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع العام 2011 .
قال عن فوزه بجائزة فلسطين العالمية للآداب: هذه الجائزة جاءت في وقتها الصحيح وهي جائزة أعتز بها وأفتخر، لأنها جاءت في الوقت الذي يتبجح فيه الإسرائيليون بأنهم سيحرزون نصرا مطلقا على الفلسطينيين وسينهون القضية الفلسطينية، لكن القضية لم تنته وهي الآن في ذروة تألقها، وشعوب العالم صارت على وعي تام بأهميتها على اعتبار أنها قضية شعب يناضل من أجل حريته.
في هذا الوقت بالذات جاءت هذه الجائزة التي من أهدافها الأساسية نشر الوعي بالقضية الفلسطينية من خلال الأدب، ونشر هذا الأدب في أوروبا والولايات المتحدة وكل بلدان العالم من أجل مزيد من التضامن مع الشعب الفلسطيني.
نلت هذه الجائزة وأنا ثالث كاتب أنالها، وهي جائزة مستقلة غير مرتبطة بنظام حكم أو دولة أو جهة ممولة، وهي جائزة متقشفة أيضا تمنح 5 آلاف دولار، وأنا تبرعت بها لمؤسسة الجائزة لأنني لست بحاجة إليها، واللجنة أحوج لأنها تعطي جوائز لكُتّاب ينشرون كتابات جيدة عن فلسطين، وهي بالنسبة لي جائزة شرفية أعتز بها لأنها تُمنح في الوقت المناسب وفي الزمان الصحيح.