جيش عالمي لتحرير فلسطين يزيح العالم يساراً

أحمد بشير العيلة

 

العالمُ يتجهُ يَساراً بقوةِ المظلومينَ وبُصيرةِ الثائرين. هذه هي الحقيقة الجيوسياسية الأكثرُ جذريةً في عصرنا، تنبثقُ من بين أنقاضِ هيمنةٍ إمبرياليةٍ طالَ أمدُها، بدأتْ أخيراً تقطعُ من لحمِ نفسها بشراهةٍ عمياء، لتُطعِمَ كياناً وحشياً ينمو على أرضِ فلسطينَ المغتصَبة. لقد تحوّلتْ آلةُ الاستعمارِ الحديثِ من أداة سلبٍ ونهبٍ إلى أداةِ انتحارٍ أخلاقيٍ وسياسي، تسحقُ مبادئَها المُعلنةَ تحتَ دباباتِ مشروعٍ استيطانيٍ عنصري إباديّ، لا يخدمُ سوى رأسِ المالِ المتوحشِ الذي أضحى ديناً جديداً للعالم.
في هٰذهِ اللحظةِ التاريخيةِ الفاصلة، حيثُ تتهاوى الأقنعةُ ويَنكشفُ المُخبوء، لمْ تعدِ الصهيونيةُ مجردَ أيديولوجيا استعمارية، بل صارتْ مجرد قطعٍ نقدية في سوقِ المصالحِ العالمية؛ عُملةً تدفعُها الإمبرياليةُ ثمناً لولائِها الأعمى، فتُقدّمُ في المقابلِ أخلاقَها ومبادئَها وقيمَها قرباناً على مذبحِ الطمع. إنها المرحلةُ الأخيرةُ من مشاريعِ ما بعدَ الاستعمار، حيثُ يُدارُ العالمُ لا بسياسةِ القوةِ فحسب، بل بمنطقِ الريعِ والربحِ الذي يتحكّمُ بالضميرِ قبلَ الجغرافيا، ويُعيدُ تشكيلَ الإنسانيةِ وفقاً لمقاسِ جيبِ الأقلية العالمية الجشعة.
هذا الانزياحُ العالميُّ نحوَ اليسارِ تجاوز شكل الموضة السياسية العابرة، إلى قوة رد الفعلِ الطبيعي لتلكَ الوحشيةِ المنظَّمة التي تجلت في تأييد المساهمة في التطهير العرقي للفلسطينيين؛ إنه صحوةُ الضميرِ الإنسانيِّ الذي أدركَ أنَّ الخطرَ ليسَ على أرضِ فلسطينَ وحدها، بل على فكرةِ العدالةِ نفسِها في كلِّ بقعةٍ من هذا الكوكب.
النداء اليساري الأقوى في التاريخ:
ومن خلال ردود الأفعال المتتالية خلال العامين الماضيين والتي تحول من مرحلة الخطابات اليسارية الرنانة، إلى مرحلة الفعل القاطع في علاقات دول أمريكا اللاتينية بالكيان الصهيوني، بل والإمبريالية المتخمة، اتضح لنا أن العالم الآن بدأ يتجه بحركة ثورية قوية نحو اليسار، فمن على منبر الأمم المتحدة الأعلى تأثيراً عالمياً، أطلق الرئيس اليساري الكولومبي الشجاع غوستافو بيترو نقلة نوعية في الخطاب السياسي اليساري على المستوى الدولي من عدة أوجه؛ حيث لم يقف الخطاب عند حد انتقاد السياسات الأمريكية أو الإمبريالية أو الرأسمالية العالمية (وهو أمر معتاد في الخطاب اليساري)، بل تجاوزه إلى دعوة عملية غير مسبوقة لتشكيل “جيش تحرير” دولي تحت مظلة “الاتحاد من أجل السلام”. هذه نقلة من الاحتجاج إلى المقاومة الفعلية المنظمة، مما يعطيها بُعدًا تاريخيًا. وفي اعتقادي، فإن الدعوة لتشكيل جيش عالمي لتحرير فلسطين هي أقوى تصريح يتخذه اليسار العالمي تاريخياً.
كما أن الخطاب ربط ببراعة بين القضايا المحورية للتيار اليساري العالمي في توحيد ملفت لسرديات اليسار العالمية مثل: معاداة الإمبريالية من خلال الهجوم المباشر على سياسات الولايات المتحدة، ووصف “سياسة مكافحة المخدرات” بأنها أداة للسيطرة على شعوب الجنوب. ومعاداة العنصرية والاستعمار من خلال الربط بين معاملة المهاجرين في الولايات المتحدة، وما يصفه بـ”الإبادة الجماعية” في غزة. والهجمات في الكاريبي، معتبرًا إياها مظاهر لنفس العقلية “الهمجية” العنصرية. وكذلك العدالة المناخية حيث ربط بشكل عضوي بين أزمة المناخ وهيمنة النظام الرأسمالي القائم على “الطمع المطلق” والاعتماد على الوقود الأحفوري، مطالبًا بتحويل 1.2 تريليون دولار لتمويل إزالة الكربون في الجنوب. ناهيك عن الموضوع الأهم وهو القضية الفلسطينية التي تُعتبر القضية المركزية لليسار المناهض للاستعمار على مستوى العالم في التاريخ الحديث، فقد جعلها بيترو المحور الاستراتيجي للعمل الدولي.
استنهاض الرموز:
وقد كان لاستدعاء الرموز التاريخية للتحرر مثل بوليفار وغاريبالدي ومارتي، وذكر الرئيس بيترو ودعوته للجيوش التي هزمت هتلر، هو محاولة لخلق استمرارية تاريخية بين حركات التحرر الوطنية في الماضي (ضد الاستعمار الأوروبي) ومعركة التحرر الحالية ضد “الأوليغارشية العالمية” المعاصرة، مُمَثَّلةً بالولايات المتحدة وحلفائها. وجاء هذا الأسلوب الخطابي تعزيزاً للدعوة الأقوى المرفوعة على منبر العالم (الدعوة لتشكيل جيش عالمي لتحرير فلسطين).
إن خطاب الرئيس الكولومبي الشجاع غوستافو بيترو قد رفع القضية الفلسطينية من مستوى قضية تضامن إنساني أو صراع إقليمي إلى محك أساسي للأخلاق الدولية، حيث صّور بيترو ما يحدث في غزة على أنه “إبادة جماعية” وقارن المسؤولين عنها بهتلر، مما يضع العالم أمام اختبار أخلاقي لا يمكن التهرب منه.
كما أن بيترو ربط بوضوح بين الصواريخ على غزة والصواريخ في الكاريبي، معتبرًا إياها وجهين لعملة واحدة في سياسة القوة والهيمنة، وهو ما يصبغ كل التصرفات العنجهية الأمريكية بلونٍ واحد.
إنقاذ الكوكب من الانهيار:
إن الهدف الاستراتيجي للعمل الجماعي للإنسانية الذي جاء في خطاب بيترو بالدعوة إلى “تحرير فلسطين” والمتمثل في التحالف العسكري الدولي البديل. بذلك، لا يحرر فلسطين وحسب بل إن في انهيار دولة الكيان الصهيوني فرصة لإنقاذ الكوكب من الانهيار المناخي وبناء ديمقراطية عالمية، كما يوضح في قوله: “بعد غزة يمكننا أن نبدأ العمل على إزالة الكربون”.
الإنسانية بديلٌ عن القومية:
يقدم بيترو كولومبيا ودول أمريكا اللاتينية في هذه المرحلة من النهوض اليساري نموذجاً ناجحاً ومُلهِماً للنضال العالمي من أجل تحرير الإنسانية من الهيمنة الإمبريالية، فالدعوة لتشكيل جيش عالمي هي بالفعل الذروة التي يبني عليها الخطاب، وهي تجسيد عملي للفكر اليساري الراديكالي، متجاوزاً بذلك عجز الأمم المتحدة حيث رافقته دعوة صريحة لتجاوز مجلس الأمن وحق النقض (الفيتو) الذي تمارسه “قوة عظمى واحدة” (في إشارة واضحة للولايات المتحدة) والذي يجعل الأمم المتحدة في وصفه “شاهداً أخرساً وشريكاً في جريمة إبادة جماعية”.
وفي رؤية فكرية عميقة احتوته هذه الدعوة، فوض غوستافو بيترو “الإنسانية” بديلاً عن “الدولة القومية”، فالجيش المقترح لا يمثل دولاً بقدر ما يمثل “الإنسانية” كفاعل سياسي جديد. هذه فكرة ثورية تهدف لتجاوز النظم القائمة على سيادة الدولة، لصالح مفهوم أممي يعتبر البشرية ككل هي صاحبة الحق في التدخل لحماية نفسها.
إن إعادة إنتاج فكرة “المقاومة المسلحة” و”حروب التحرير” التي كانت ركنًا أساسيًا في الفكر اليساري خلال القرن العشرين، ولكن على نطاق عالمي وضد نظام الهيمنة الحالي نفسه. يحررنا من عقدة السؤال الذي يخنقنا: (ما العمل؟) فقد جاءت الإجابة بحد ذاتها تحرراً لنا من مستويات الصمت أو مجرد التعبير عن الرأي، متجاوزاً المظاهرات والمقاطعة إلى مستوى أعلى تأثيراً وهو المواجهة العسكرية المنظمة.
لقد فعلها غوستافو بيترو الذي يعد خطابه الأممي بياناً سياسياً فلسفياً شديد الجرأة. إنه لا ينتقد النظام العالمي فحسب، بل يعلن عن مشروع كوني مضاد بقيادة أمريكا اللاتينية والجنوب العالمي، تُعتبر فيه القضية الفلسطينية المعيار والمدخل، وتُعتبر فيه الدعوة لتشكيل جيش تحرير دولي هي الأداة. هذا الخطاب يمثل ذروة تطور الخطاب اليساري نحو الأممية العملية والراديكالية، متحدياً الهيمنة الغربية ليس فقط بالكلمات، بل باقتراح فعل تاريخي يغير قواعد اللعبة الدولية بشكل جذري. سواءً أكان هذا الاقتراح واقعياً أم لا، فإن مجرد طرحه من على منبر الأمم المتحدة يمثل لحظة فارقة في الخطاب السياسي العالمي المعاصر.
* كاتب فلسطيني

قد يعجبك ايضا