التولّي، والتنزيه والتسبيحُ منهج يغيّر القلب والواقع: قراءة تحليليّة في «معرفة الله – الدرس الثامن»

علي أحمد شرف الدين

 

 

 

إنَّ من يطالع هذا الدرس لا يجد معلوماتٍ للتكديس، بل طريقًا عمليًّا إلى الله: أن تتولّاهُ سلوكًا، وأن تُنزِّهه اعتقادًا ولسانًا، وأن تُكثِرَ تسبيحَه حتى تمتلئَ النفسُ بعظمته فتَصغرَ الأشياءُ من حولها. هذه الملزمة تُعيد ترتيب الداخل بهذا الثالوث: تولٍّ يُثمِرُ أمنًا في الآخرة، وتنزيهٌ يَصونُ التوحيد من شوائب التشبيه، وتسبيحٌ يحوّل التأمّل في الآيات إلى وجدانٍ وسلوك.
والمتأمل في النص يرى كيف ربط التولّي بثماره الأخرويّة ربطًا مباشرًا؛ ليس وعدًا معلّقًا بل نتيجةً لا تتخلّف. قال شهيد القرآن: “فترى كم كان لتوليك لله سبحانه وتعالى من أثر عظيم.” ويجعل المشهدَ أبلغَ من الوعد: أمنٌ ورفعةٌ في يوم الفزع، وانقلابٌ لموازين السخرية التي كانت في الدنيا؛ قال شهيد القرآن: “ترى أن من توليته هو من رفعك في ذلك المقام العظيم، فأمَّنك في يوم الهول الشديد،”. هناك يتلاشى صخبُ المتكبّرين، لأن المُلكَ حقًّا لله.
ثم يأخذ بيد القارئ من «التصديق الخبري» إلى «الأثر الوجداني والسلوكي». ليست القضية أن تقول: نعم، الله كذلك، ثم تمضي. إنما أن تدع صفاتِه تُحدِثُ فيك اعتمادًا وثقةً وتوكّلاً. قال شهيد القرآن: “فهو هنا لا يتحدث لمجرد الحديث عن عظمة الله سبحانه وتعالى فقط، بل ليقول لك: أنا هكذا.. فبي فثق، وعليّ فتوكل، وإياي فارجوا”. وعند قوله تعالى {قوله الحق} يُبيّن أن الحديث قانونُ واقعٍ لا يتخلّف؛ قال شهيد القرآن: “ومعنى أن قوله الحق: هو الواقع الثابت الذي لا يتخلف، وهو الحق الذي لا باطل فيه، ولا ضلال فيه،”.
وتأتي «منهجيّة التنزيه» لتربّي العقل واللسان معًا. التنزيه ليس ترفًا كلاميًا؛ إنّه برهانُ توحيدٍ يُسقطُ كلَّ تصوّرٍ يُشبهُ الخالقَ بالمخلوق. يقرّر النصُّ قاعدةً قاطعة: نسبةُ الأعضاء والحدود والكيفيّات تَستلزمُ التركيبَ، والتركيبُ علامةُ الحدوثِ والاحتياج؛ ومتى ثبت الاحتياجُ سقطت الألوهيّة. قال شهيد القرآن: “التركيب علامة من علامات الحدوث.” ومن هنا تُبطِلُ دعوى «الولد»؛ لأنها تلزم بنقصٍ واحتياجٍ ينافيان الكمال الإلهي؛ قال شهيد القرآن: “هو من لا يمكن أن يلد أو أن يكون مولودًا، لا يمكن إطلاقًا، لا يمكن أبدًا أن يكون مولودًا، ولا يمكن أبدًا أن يلد، أن ينجب؛ لأن هذا هو شأن المخلوقات، شأن المحدثات، تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك.” كما يشرح معنى {بديع السماوات والأرض}: ابتداءٌ من غير مثالٍ سابق؛ قال شهيد القرآن: “مبتدعهما… هو من أوجدهما من حالة العدم على غير مثال احتذاه.”
وعند {وخَلَقَ كلَّ شيء} يُصحّح النصُّ سوءَ الفهم الشائع؛ فالآية هنا في مقام الثناء والكمال، لا في مقام نسبة قبائح العباد إلى الله. مسلكُ الجبر الذي يجعل العبدَ بلا اختيارٍ يُشوّه صورةَ الربّ — تنزّه وتعالى — حتى يصيرَ «أسوأ من الشيطان»! قال شهيد القرآن: “حينئذٍ جعلوا الله — سبحانه وتعالى ننزهه ونقدسه — جعلوه أسوأ من الشيطان!” ويقيمُ المعيار: الشيطان يوسوسُ ولا يملكُ سلطانَ الإلزام على أولياء الله، فينهض التكليفُ ومسؤوليّةُ الاختيار. وقد قال شهيد القرآن — مُبيِّنًا السنّة الإلهية — بما معناه: “لا يملك الشيطان عليك… {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.”
ويبلغ التنزيهُ ذروته مع {لا تُدركه الأبصار}؛ نفيُ الإدراك البصري إطلاقٌ يُنزّهُ الذاتَ الإلهيّةَ عن الحدّ والجهة. قال شهيد القرآن: “فهو من لا يمكن أن تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة.” وهذا درسٌ للعينِ واللغةِ معًا: أن تُطهِّرَ وصفَك لله من كلِّ ما يوهمُ الحدَّ والتركيب، وأن تجعلَ لسانَك خادمًا لعقيدتك، لا مثقّبًا لها.
ويبقى «التسبيح» الروحَ التي تُشغّلُ هذا كلّه: ليس مجرّدَ ذكرٍ لفظيّ، بل رؤيةُ عالمٍ تُحوِّل كلَّ ما تراه — من ملكوت السماء إلى دقّة الجرثومة — إلى جسورِ معرفةٍ وتعظيم. كلّما تأمّلتَ اتّسعت فيك مَلَكةُ التعظيم، وكلّما عظُم اللهُ في قلبك صَغُر ما سواه، فانقادت الجوارحُ لميزانِه، لا لميزانِ الهوى والناس. قال شهيد القرآن: “نبحث عن كيف نجعل لهذه الآيات العظيمة أثرًا عظيمًا في نفوسنا، كيف نجعل نفوسنا تشعر بعظمة الله، فيعظم الله فيها، فيصغر ما دونه أمامها.

قد يعجبك ايضا