الدين.. هم بالليل وذل بالنهار


رغم انه يعمل في وظيفة مدير إدارة بإحدى المصالح الحكومية إلا انه طوال حياته غارق في الديون, ففي محيط عمله أصبح مديوناٍ لمعظم زملائه بينهم موظفون اصغر منه درجة وراتبهم الشهري اقل من راتبه, وخارج العمل تجده مطاردا من صاحب البقالة والجزار وبائع الخضروات والمقوت لدرجة انه نهاية كل شهر لايستطيع دخول البيت إلا متنكرا خوفا من أن يتم القبض عليه من أصحاب دين لديه.
العجز عن سداد الدين يعرض صاحبه لمخاطر أمراض القلق والاكتئاب والضغط والانتحار
الرجال الذين يشتكون من الديون معرضون للإصابة بالاكتئاب والسكر

تتعدد الأسباب التي تدفع الشخص إلى الاستدانة من الآخرين وليس الفقراء فقط أو ذوي الدخل المحدود من يضطرون إلى الاستلاف, الأغنياء أيضا يقع بعضهم في مأزق الدين ويجدون أنفسهم في يوم ما مطاردين من قبل الديانة ومهما كانت الأسباب التي تجبر الشخص على الاستدانة من الآخرين يظل الدين هو “همْ بالليل وذل بالنهار” وكثيرا ما يصل بالشخص إلى نتائج لا تحمد عقباها تعود بآثارها السلبية على حياة الشخص وأسرته وقد تصل حد تفكك الأسرة الواحد وتشرد الأبناء.
تجربة مؤلمة
بمجرد أن تبدأ الحديث مع اي شخص عن الديون تجد تنهيدة قاسية تخرج من صدره فإما أن يكون يعاني من هذا الشيء أو سبق أن عاش تجربة أثرت فيه كثيراٍ.
البداية كانت مع الموظف الذي تطرقنا إليه آنفا وسألناه عن تجربته مع هم الديون فقال :هي تجربة طويلة ومْرة تعود إلى أكثر من خمس عشرة سنة عندما تزوجت واستلفت مهر زوجتي وتكاليف الزفاف من بعض الأصدقاء والأقارب واضطررت إلى الخروج للعمل بعد الزفاف بأسبوع فقط حتى استطيع أن أقاضي ديوني.
ويؤكد أن الشخص حين يلجأ للاستدانة يظن أن القضاء سيكون سهلا ولكنه يعاني كثيرا نفسيا وبدنيا حتى يستطيع إرجاع المبلغ المالي الذي استلفه.
وحول أسباب استمراره في الديون يقول: أنا أعمل في وظيفة مدير إدارة ولدي سبعة أبناء ونتيجة متطلبات الحياة وغلاء المعيشة وكثرة مطالب الأبناء والزوجة أجد نفسي مجبرا على الاستعانة من أكثر من جهة لتلبية تلك المطالب ونهاية الشهر اقسم راتبي بين الديانة .
ويصف تأثير الديون على نفسيته بقوله :عندما تجد نفسك محاصرا بالديون من كل جانب وراتبك الشهري لا يغطيها كاملة بخلاف الالتزامات الأخرى التي تنتظر هذا الراتب مثل إيجار البيت وفواتير الماء والكهرباء وغيرها كل ذلك يجعل تفكيرك مستمراٍ ويصعب عليك النوم وتصاب بالقلق والاكتئاب.
ويضيف بأنه ونتيجة لكثرة الديون قد خسر الكثير من أصدقائه وأقاربه وأصبح معظمهم لا يردون على اتصالاته خوفا من ان يطلب منهم مبلغاٍ من المال.
ضحايا مجتمع استهلاكي
وفي هذا الصدد يرى الباحث الاقتصادي جميل ناشر أن مشكلة لجوء الشخص إلى الديون يعود سببها الرئيسي إلى الشخص نفسه ونظامه في الحياة ومن الخطأ أن نتعذر بالظروف المعيشية الصعبة وغيرها من المبررات التي نحملها المسئولية.
ويقول: يستطيع الشخص أن ينظم نفسه وأسرته على المعيشة في مستوى معين لايجبره على ذلك فليكن لمرة أو مرتين فقط وليس بشكل مستمر مضيفا:”للأسف الشديد أن الكثير ممن يعانون من الديون هم ضحايا مجتمع استهلاكي ينفق أكثر مما يكسب ولا يفكر في تنظيم معيشته بحيث يكون مستوى الإنفاق على قدر الكسب فليس من الضرورة أن يشتري القات بشكل يومي وليس من الضروري أن تظهر زوجته وكأنها خْلقت وفي فمها معلقة ذهب وليس من الضرورة أن يتباهى أبناؤه على الآخرين بملابسهم الثمينة وامتلاكهم تلفونات وغيرها من الأشياء الكمالية”.
ويؤكد ناشر أن البعض قد يقع ضحية ظروف صعبة أو مشكلة تجبر على اقتراض المال من اصدقائه ولكنه يجد صعوبة في إرجاع هذا المال كون دخله اليومي او الشهري محدوداٍ ولا يمكنه من سداد الدين الذي عليه فيلجأ إلى الاستدانة من آخرين لتسديد الدين الأول وهكذا يظل مهموما طوال حياته وفي الجانب الآخر هناك أشخاص حالتهم المادية ميسورة ولا تضطرهم إلى اللجوء للدين ولكنهم يجدون أنفسهم غارقين في بحر الديون بسبب الإهمال كأن يشتري الشخص من السوبر ماركت أشياء ليست ضرورية للبيت فيدفع له ما في جيبه من مال ويتبقى عليه مبلغ معين وتتكرر هذه العملية أكثر من مرة وفي كل مرة يهمل تسديد المبلغ السابق حتى يتراكم ويصبح من الصعب تسديده دفعة واحدة.
خسارة
وتطرق الاقتصادي جميل ناشر إلى نوع ثالث من الديون تتعلق بالتجارة كأن يقوم احد الأشخاص باقتراض مبلغ من المال لفتح متجر او تشغيله في السوق ويلتزم بإعادة هذه التجارة وبدلا من المكسب يخسر المبلغ الذي استدانه ويجد نفسه إما في السجن أو عايش في مذلة وهذا -بحسب ناشر- يأتي نتيجة لسوء التخطيط ودراسة المشروع قبل البدء فيه.
عواقب
وفي ذات السياق اثبتت دراسة أميركية حديثة أن الدين احد أهم الأسباب التي تدمر الأسر وتشتتها وتؤدي أحيانا إلى سوء العلاقات الاجتماعية وتفكك الأهل والأصدقاء.
وتشير الدراسة إلى أن الشخص الذي يعاني من عجز عن سداد ديون كبيرة عليها قد تجعله يمضي سنوات عدة في السجن فيصاب بالقلق والاكتئاب ويصل الأمر مع البعض إلى درجة الانتحار,فيما يصاب البعض بحالة من الانعزال عن الأسرة والمجتمع وقد يصاب بالجنون نتيجة تفكيره المستمر وهجرانه للنوم والراحة.
وبينت الدراسة أن البعض من هؤلاء تنعكس معاناته الداخلية مع هذا الحمل الثقيل في علاقته بزوجته وأبنائه فتجده عنيفا في التعامل معهم لا يطيق الحديث معهم ويصل الأمر بعض الأحيان إلى استخدام العنف ضد الابناء والزوجة بحجة أنهم يتحملون جزءا من مسؤولية ما وصل إليه الأب.
الدراسة التي أجريت على مجموعة من المواطنين رجالاٍ ونساء أكدت أن الرجال العاجزين عن سداد ديونهم والذين يشتكون من كثرة الديون يكونون عرضة للإصابة بالأمراض مثل”الاكتئاب والضغط والسكر” أكثر من السناء اللاتي عليهن مبالغ مالية لآخرين.
وأشارت الدراسة في ذات السياق إلى أن الرجال يلجأون الى الاستدانة أو الاقتراض من أشخاص أو شركاء أو بنوك أكثر من النساء ويرجع السبب في ذلك إلى كون الرجال يتحملون مسؤولية معيشة الزوجة والأبناء.
المعالجات
وللحد من الوقوع في بحر الديون ما وينتج عنه من آثار سلبية وعواقب وخيمة وضعت الدراسة عددا من التوصيات مشددة على ضرورة أن يكون الأب صريحا مع أبنائه فميا يتعلق بحياتهم المعيشية المرتبطة بمقدار ما يكسبه رب الأسرة من وظيفته أو متجره وحتى لا يضطر إلى الاقتراض لتغطية نفقات الأبناء التي كثيرا ما تكون كمالية, بالإضافة إلى إشعار الأبناء بمقدار المسؤولية الملقاة على عاتق الأب والجهد الذي يبذله لتحقيق احتياجاتهم وإسعادهم بالقدر المناسب ومن ضمن الحلول التي وضعتها الدراسة, الادخار الجماعي أو ما يعرف بالجمعيات بحث يشترك الشخص مع زملائه أو جيرانه وأصدقائه في عمل جمعية بمبلغ مالي بالتساوي بين جميع المشتركين يدفع نهاية كل شهر ويسلم المبلغ كاملا دفعة واحدة لأحد المشتركين في الجمعية بحسب الترتيب , هذا المبلغ يساهم في حل الكثير من الإشكاليات المادية في الأسرة وفي نفس الوقت يحد من الاقتراض اما الحل الرابع فيمثل في تعويد الأبناء على الادخار من مصروفهم اليومي وإلغاء مصطلح الدين من قاموس حياتهم بالإضافة إلى تعويد الأسرة على نظام معين في الحياة اليومية بحيث يخلق لدى الأبناء القدرة على التكيف مع الظروف المعيشية أيا كانت.

قد يعجبك ايضا