الثورة /
يعتبر المديح النبوي في اليمن أحد أبرز تجليات التراث الثقافي والديني الذي حافظ على أصالته عبر القرون، حيث يشكل أساساً للهوية الإيمانية للشعب اليمني ومعبراً عن حبه العميق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويتميز هذا التراث بتنوعه الغني وتفرده بين التراث الشعري والإنشادي في العالم الإسلامي، حيث يجسد صدق المشاعر والإخلاص في التعبير عن التعلق بالنبي محمد صلوات الله عليه وعلى آله .
ويشكل المديح النبوي العمود الفقري للتراث اليمني الأصيل، حيث يمتد تاريخه إلى أكثر من ألف عام، ويتميز بحضور لافت في المشهد الثقافي والديني.
وتتعدد الألحان من مدينة إلى أخرى، ولكل منطقة تراث متنوع تتميز به، مع أن صنعاء جمعت كل الألحان التراثية .
يتميز هذا التراث بالزخم الهائل من القصائد والألحان التي لا تحصى، والتي تميز بها اليمنيون عبر العصور ،وقد ظلت مفردات هذا التراث المتوهجة بذكر رسول الله وآله حاضرة في مختلف كتب الأدب والموسوعات القديمة والمعاصرة، مما يؤكد مكانته المركزية في الثقافة اليمنية.
أنواع المديح النبوي في اليمن:
الإنشاد الديني التقليدي
يتميز بعدم استخدام الآلات الموسيقية، ويعتمد على الصوت البشري والإيقاعات الطبيعية ،وتتضمن كلماته شعراً غزلياً عذرياً، وشعراً توسلياً، ومدحاً في رسول الله، وشعراً صوفياً .
الموشحات والأناشيد الصوفية
تنتشر في مناطق مثل صنعاء وحضرموت وتهامة.
في صنعاء، يتخذ النسيج الإنشادي طابعاً ابتهالياً، بينما في حضرموت يلتقي مع الأشكال الفولكلورية مثل الدان والعُدة.
القصائد الملحنة
لكل منطقة ألحانها المميزة، حيث قد تحتوي القصيدة على ثلاثة إلى ستة ألحان مختلفة ويعتبر هذا الثراء اللحني سمة فريدة لا توجد في أي فن آخر بأي وطن آخر.
مدائح الموالد النبوية
ترتبط باحتفالات المولد النبوي الشريف، وتعبر عن الفرح والابتهاج بهذه المناسبة وتشمل إقامة الموالد وإحياء الليالي المحمدية عبر الأهازيج والأناشيد .
شعراء اليمن وتفردهم في المدائح النبوية
العارف بالله عبدالرحيم البرعي (توفي 892 هـ / 1483 م)
يُعتبر البرعي أشهر شعراء المديح النبوي في اليمن على الإطلاق، وتُغنى قصائده حتى اليوم في الموالد والمناسبات الدينية في كل ربوع اليمن والعالم الإسلامي. تتميز قصائده بالسهولة في اللفظ، والعذوبة في الألحان، والعمق في المشاعر والعشق النبوي الصادق.
من قصيدته الشهيرة التي تبدأ بـ: «كأني بزوار الحبيب وقد رأوا»
كَأنِّي بِزُوَّارِ الحَبِيبِ وَقَدْ رَأَوْا بِيثْرِبَ نُوراً فِي السَّمَاءِ تَصَعَّدَا
تَهُونُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مُرْتَحَلٍ غَضِبَتْ عَلَيْهِ المَطَايَا وَالرِّكَابُ وَأَجْهَدَا
يَرَوْنَ السُّرُورَ فِي المَسِيرِ إلَيْهِمُ وَيَشْتَونَ مِنْ أَهْلِ الهُدَى وَتَرَشَّدَا
فَيَا طَالِباً يَبْغِي الوُصُولَ بِحَبَّةٍ لَدَى الحَشْرِ تُنْجِيهِ إذا ما تَوَحَّدَا
من قصيدته التي تبدأ بـ: «يا راكبين العيس»
يَا رَاكِبِينَ العِيسِ غُضُّوا مِنَ الصَّوَا وَامْشُوا عَلَى بَطْءٍ وَعِيشُوا بِالرَّدَى
قُولُوا لِأَهْلِ التُّرْبِ فِي أَرْضِ يَثْرِبٍ أَجِدُّوا سُرَاعاً بَعْثُنَا قَدْ تَوَطَّدَا
هَلْ فِيضُ ذَاكَ الجِسْمِ طَابَ ثَرَاهُ أَمْ زَارَهُ وَرْدٌ مِنَ الخُلدِ وَرْدَا
الإمام محمد بن علي الشوكاني (توفي 1250 هـ / 1834 م)
إلى جانب كونه فقيهاً ومجتهداً كبيراً، كان الشوكاني شاعراً مُبدعاً في المدائح النبوية، حيث جمعت قصائده بين متانة الأسلوب وقوة البيان وصدق العاطفة.
من قصيدته في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم):
يَا سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ يَا مُؤْمِنَ الرُّعْـ ـدِ وَيَا مُجيِبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّ
يَا خَيرَ مَنْ وَطِئَ الحَصَى وَأَتَى بِالـ ـبَيْنِنَاتِ وَالهَدْيِ وَالخَيْرِ الكِثْرِ
صَلَّى عَلَيْكَ الإلَهُ مَا ذَكَرَ الذَّا كِرُونَ وَاخْتَلَفَ اللّيَالِي وَالشُّهُرْ
أحمد بن علوان (توفي 665 هـ / 1266 م)
الشاعر الصوفي الكبير، الذي امتزج في شعره الحكمة الفلسفية الصوفية مع العشق النبوي الخالص.
من قصائده المشهورة:
طَارَ الفُؤَادُ إلَى الحَبِيبِ مُعَذَّباً وَبَكَى وَشَكَّى مَا يُلِيمُ وَيَعْتَذِرُ
يَا رَبِّ وَصْلٍ بِالرَّسُولِ مُؤَزَّلٍ قَدْ سَارَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَيَنْشُرُ
أَنْتَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ رَحْمَةً لَنَا فَاشْفَعْ بِهِ فِيْنَا وَيَا رَبِّ فَاغْفِرُ
الحسن بن عمر الهبل (توفي 1088 هـ / 1677 م)
من أعلام الصوفية في اليمن، وكان شعره يتسم بالرقة والعذوبة والغزل الصوفي الذي يمتزج بالمديح النبوي.
من أبياته الشهيرة:
يَا أَحْمَدَ الخَيرِ الَّذِي قَدْ شَفَانِي بِجَمَالِ وَجْهِكَ مِنْ كُلِمْـلَامِ وَجُرْحِ
أَنْتَ الطَّبِيبُ لِقَلْبِ كُلِّ مُؤَمَّـلٍ وَأَنْتَ دَوَاءُ العَيْنِ مِنْ كُلِّ مَرْضِ
الشعراء المعاصرون (مثل صالح سحلول)
من قصيدة للشاعر المعاصر صالح سحلول:
يَا نَبِيَّ السَّلامِ يَا خَيْرَ مَنْ وَطَئَ الثَّرَى صَلَّى عَلَيْكَ الإلَهُ مَا غَنَّتِ الحَجَلُ الصَّدِيحْ
أَنْتَ نُورُ الهُدَى وَأَنْتَ الشِّفَاءُ لِكُلِّ دَاءٍ وَبِوَصْلِكَ يَرْتَوِي القَلْبُ الجَرِيحْ
هذه القصائد ليست مجرد كلمات تنشد، بل هي جزء من نسيج الهوية اليمنية ووعاء للروحانيات والمشاعر الجياشة تجاه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتتميز بالتالي:
الصدق العاطفي: تتصف مدائحهم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص، بعيداً عن مدح التكسب أو التملق.
الروحانية الصوفية: تركز على الحقيقة المحمدية وتجلياتها في الكون، مع طابع عرفاني وعشق روحاني.
تنوع الموضوعات: تشمل صفات النبي الخلقية والخلقية، والشوق لرؤيته، وزيارة قبره، ومعجزاته، وغزواته.
الخلاصة، إن المديح النبوي في اليمن يظل تراثاً حياً ومتجدداً، يعبر عن هوية الشعب اليمني الإيمانية والفنية ويتميز هذا التراث بتنوعه الغني وصدق مشاعره، مما جعله يحافظ على مكانته عبر القرون. جهود التوثيق والحفظ التي تقوم بها المؤسسات المعنية تساهم في الحفاظ على هذا التراث من الاندثار، وتضمن استمراريته للأجيال القادمة. يمثل المديح النبوي اليمني ليس فقط تراثاً محلياً، بل إسهاماً مهماً في التراث الإسلامي العالمي، يجسد المشاعر الروحية والإبداعية الفنية التي تخص العلاقة بين الإنسان والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ).