
عندما تقرأ مقالات الكاتب عبدالكريم السوسوة وحواراته الفكرية والفلسفية والأدبية وخاصة تلك المقالات التي جمعها في كتيب صغير بـ “حوارات فلسفية وأدبية” تشعر بوجود هاجس حقيقي يشغل فكر الكاتب وشعوره في مختلف مقالاته على الرغم من أنها نشرت في نطاق زمني واسع. ولعل في إمكان القارئ إدراك خيوط ذلك الهاجس بسهولة من خلال قراءة مقدمة الكتيب القصيرة جداٍ فثمة مصطلحات -تتكرر على نحو غير اعتيادي- -لها ارتباطات وثيقة بالخلفية المعرفية والنفسية للموضوع الشاغل لفكر الكاتب منها: “الخرافة والعقل والفلسفة” فـ (الخرافة) مثلاٍ تتكرر سبع مرات و(العقل) ست مرات و(الفلسفة) تسع مرات. بينما مفردة (الأدب) لم تتكرر سوى (مرتين) مع أن عنوان الكتاب (حوارات فلسفية وأدبية).
إن اهتمام الكاتب عبدالكريم السوسوة بمصطلحات مثل: (الخرافة والعقل والفلسفة والأسطورة) ينبعث من إيمانه بقوة فاعليتها في الوعي الجمعي للإنسان العربي وعمق ارتباطها بحالة الاستلاب العقلية. ليس العقل المعاصر فحسب وإنما العقل العربي في فطرته وطبيعته. بالإضافة إلى إيمانه بوجود حواجز تفصل بين العقل العربي والعقل الغربي. يقول الكاتب في مقدمته للكتيب: “لذا فقد حاولت في هذا الكتيب إبراز جوانب الضعف في الفكر الغربي المعاصر بالذات لإبراز ما يحتويه من خرافة وعبث حتى لا يتأثر الشباب العربي بإغراءاته المبهرة فيضيف إلى عبثنا الطبيعي وعدم جديتنا عبثاٍ فلسفياٍ فنزداد تخلفاٍ ولكن بفلسفة عصرية”.ص3 4.
في هذه النص القصير المكون من ثلاثة أسطر نقرأ مفردات مثل (الخرافة والعبث/ثلاث مرات والتخلف والإغراء والضعف). ومع أن معاني هذه المفردات واضحة وكذلك مقصدية النص التي تتلخص في تعرية الفكر الغربي والتحذير من الانبهار بإغراءاته وكذا بيان ضعف العقل العربي وعجزه وتخلفه. إلا أن الكاتب –وتحت ضغط هاجس الاستلاب العربي- يفلسف وجود تلك المفردات المصطلحية بما يناسب طبيعة كل ذات وفكر. فـ(العبث) مثلاٍ يقر بوجوده في الفكر الغربي والفكر العربي معاٍ لكنه يصفه في الفكر العربي بالعبث الطبيعي إذ يقول: “يضيف إلى عبثنا الطبيعي وعدم جديتنا عبثاٍ فلسفيا”. إذن فالعبث المرتبط بالذات العربية عبثاٍ طبيعياٍ بينما العبث المرتبط بالذات الغربية عبثاٍ فلسفياٍ.
فمن الملاحظ أن قلق الكاتب لا يأتي من خشيته من تحول العبث الطبيعي إلى عبث فلسفي بل من إضافة العبث الفلسفي إلى العبث الطبيعي ليصبح “عبثاٍ طبيعياٍ فلسفياٍ”. “فنزداد تخلفاٍ ولكن بفلسفة عصرية” كما يقول. ونحن هنا لن نتأول مْراد الكاتب من العبث الطبيعي الذي وصف به العقل العربي فهو قد يحتمل معاني كثيرة لكن بالنسبة لنا لا نراه يخرج عن نطاق معنيين.. المعنى الأول هو العبث الفطري. بمعنى أن فطرة الإنسان العربي التي فطره الله عليها هي فطرة عبثية. والمعنى الثاني ينتج من ربط معنى العبث بالوعي الجمعي للإنسان العربي أي أن النسق المضمر -الذي يقف وراء حركة العقل العربي وتصرفه وإنتاجه- طبيعته الأصلية عبثية وبالتالي فهو مسيطر على الوعي الجمعي ومتحكم فيه. وهو الأمر الذي أدى إلى استلاب وعي الأمة وروحها معاٍ.
ومن هنا فإن فكرة الاستلاب السائدة في العالم العربي هي الباعث الحقيقي لأفكار الكاتب وآرائه وهي الحبل السري الذي يجمع شتات مقالاته في (حوارات فلسفية وأدبية). والاستلاب في معناه البسيط هو انسلاخ الشخص عن ذاته وخضوعه للآخر وانقياده له دون إبداء أي رأي أو فكرة أو اعتراض. بمعنى آخر هو التبعية المطلقة للآخر. وهذا ما يبدو جلياٍ من النص التالي من مقال للكاتب السوسوة بعنوان: “علي حرب: وحرارة النقد من موقع هلامي” ص28. فهو يعيب على المفكر والناقد الكبير الدكتور علي حرب أنه شديد الانبهار بمناهج النقد الغربية وسريع التحول عنها فما أن يقف على واحد منها حتى يدعه إلى آخر. يقول منتقداٍ علي حرب: “فلم أقبض له على هدف سوى انتقاله البهلواني من منهج إلى آخر ومن رؤية إلى أخرى. دون أن يستقر على رؤية محددة أو منهج محدد”. ص29. ويقول في سياق المقال نفسه: “وصلت بنا الأمور –في واقعنا العربي حد العبث- من جراء ما نعانيه من لا مبالاة مفرطة حيث غابت الجدية في مواجهة هزيمتنا الحضارية ومآسينا وتخلفنا وغابت رغبتنا أو على الأصح رغبة أنظمتنا في مواصلة البحث عن أنجح الطرق للخروج من واقعنا المأزوم” ص 28. فالكاتب في هذا النص يؤكد –بوعي منه وشعور- إيمانه بفكرة (العبث الطبيعي). إذ يقول هنا: (في مواجهة هزيمتنا الحضارية). فوصفْ الهزيمة بالحضارية لا يختلف كثيراٍ عن وصفه للعبث بالطبيعي فـ(الهزيمة والعبث) كلاهما متوغلَ في صميم فكر الإنسان العربي ووجدانه. ولنا أن ننظر في حجم دوال النص الدالة على المعنى ذاته. فواقعنا العربي نصياٍ ما هو إلا (معاناة لا مبالاة مفرطة غياب الجدية هزيمة حضارية مآس تخلف غياب رغبة واقع مأزوم). وأعتقد أنه ليس بوسع أحد إخفاء مشاهد هذه اللوحة المأساوية للأمة العربية التي ترسمها هذه المفردات وما تحمله من دلالات غارقة في العبث والانهزام الحضاري.
وكذلك عندما يناقش الكاتب السوسوة مواضيع كالوجودية وسارتر والبنيوية والتفكيكية فهو يتحدث باستمرار عن ضخامة الغزو الثقافي والسياسي والاجتماعي الغربي للأمة العربية ومدى حدته وعنفه فثمة مخططات وآليات وأدوات واستراتيجيات يعتمد عليها الغزو منها ما ظاهر وجلي ومنها ما هو مستتر وخفي. ولكن مهما تعددت الوسائل والآليات فالغاية المرجوة واحدة وهي إيصال الإنسان العربي إلى مرحلة الهزيمة النفسية والذهنية لكثرة الإحباطات التي تحد من قدرة عقله على مواجهتها.
لقد أدرك الكاتب السوسوة أن الاستلاب يميت الإرادة وبالتالي فهو لا يمل من تكرار فكرة أن هدف الدول الغربية الاستعمارية يتجلى في حرصها على غرس عناصر الاستلاب في الشعوب العربية حتى تضمن خضوعها وعدم تفكيرها في المقاومة أو تحريك المشاعر وإشعال رغبة الثورة والانتقام. ولذا نجده يعيب كثيراٍ على الشباب العربي في مقاله المعنون بـ(الحرية بمفهومها الفوضوي) بسبب إقبالهم اللا معقول على تمثل ما تدعو إليه التيارات الفلسفية الغربية وخاصة الوجودية الداعية إلى الحرية الفردية التي تخلق مجتمعاٍ فوضوياٍ. إذ يقول: “والغريب أن هذا الاتجاه الفوضوي للحرية يجد قبولاٍ عند الكثير من الشباب العربي مما يعتقد أنه من الضروري أن يكون وجودياٍ لزوم الموضة الفكرية في مرحلة بدأت الوجودية نفسها تتلاشى” ص10.
لقد بلغت حالة الكاتب السوسوة في موضوع التحذير من الآخر/ الغرب حد التوجس المطلق وكأن القارئ يشعر أحيانا أنه ينطلق في بعض كتاباته من خلفية سلفية تجرم الآخر وترفع من شأن الذات العربية التراثية وتقدسها. وبكل تأكيد أن استبطان الآخر على هذا النحو قد لا يكون فعلاٍ إيجابياٍ وقد لا يسلم من الانحراف والتجني عليه بفعل الضغوطات الناتجة عن النوازع أو الهواجس الحادة. انظر ماذا يقول في المقدمة: “وفوق هذا اكتشفت أن بعض التراث الغربي نفسه قديمه وحديثه لا يخلو من الخرافات والأساطير الساذجة. لدرجة أن التراث العربي والدين الإسلامي يشكلان حالة أرقى بما لا يقاس” ص3 . ويقول كذلك: “أما احترام الإسلام للعقل فلا يحتاج إلى وصف فهناك المئات من الآيات القرآنية التي تدعو إلى التدبر العقلي لا الخرافي”. ص4.
صحيح هذا القول ولا اعتراض عليه لكن أصح منه أن العقل العربي لا يمتثل لهذه الآيات وإنما يمتثل للعادات والأعراف والخرافات الكامنة في صميم فكره ووجدانه أكثر من امتثاله لآيات القرآن الكريم وأحكامه وحدوده.
بل إن الكاتب السوسوة في رده على مقال “ابن رشد بين التنوير والتزوير” للكاتب عبدالفتاح البتول يعترض على البتول رغم سلفيته المشهورة كونه يتغاضى -كما يزعم- عما نواجه “من تحديات مرعبة قادمة من الغرب والذي أخضعنا شئنا أم أبينا لمشيئته بسبب امتلاكه لكل وسائل الدمار بل وصل إلى حد محاولة استنساخ البشر وأخاف مستقبلا أن يحولنا إلى فئران لتجاربه العلمية في وقت لا زلنا نبحث عن وسائل الخلاف فيما بيننا” ص67.
في الأخير لا أدري ماذا كان سيكتب عبدالكريم السوسوة لو كان بيننا اليوم فالأمة العربية اليوم ازداد انحطاطها وخضوعها تحت وطأة حد الاستلاب أكثر من خضوعها تحت حد الاستغلال فما نشاهده اليوم في كثير من بلدان الوطن العربي وإن كان ظاهره يبدو استغلالاٍ إلا أنه في الحقيقة استلابَ بمعناه المعرفي والفلسفي فالقوم لهم إرادات قوية وفاعلة ولهم قناعات ورغبات يموتون في سبيلها ولهم أفكار ومخططات ومؤسسات يشتغلون عليها. لكن الواقع يقول أنها ليست إراداتهم ولا قناعاتهم ولا رغباتهم ولا أفكارهم ولا مخططاتهم وإنما هي أفكار الآخر العدو وإراداته ورغباته ومخططاته. ذلك الآخر الذي ساقه ذكاؤه إلى تجاوز مرحلة الاستغلال إلى مرحلة الاستلاب. فمرحلة الاستغلال لا تطول كثيراٍ فسرعان ما يصحو المسْتغِل ويدرك خطأ أفعاله.
إن ما نشاهده من صراعات قائمة في بعض دول الوطن العربي وتجاوز نتائج بعضها حد العقل والمنطق يؤكد على أن هذه الصراعات تؤسس لنفسها آماداٍ بعيدة لا لعجزها عن التصالح والابتعاد عن ظاهرة العنف ولكن لفقدها عناصر التحكم فيها لأن مفاتيحها ليست بيد أبنائها المستلبين وإنما بيد الأجنبي.
لقد أصبح الاستلاب حالة مزمنة تعاني منها شعوب الأمة العربية وتكابد بسببها المعاناة والقتل والإذلال والدمار. فإذا نحن نقف أمام أمة مْغيبة العقل نهائياٍ لا تعرف أين مصلحتها ولا إلى أين تسير¿ ولا تستطيع أن تفرق بين أصدقائها وأعدائها. أمة يفتك بها الفساد والاستبداد ويتمكن منها اليأس والخنوع والعجز.
ولعل أسوأ صور الاستلاب وأخطرها يكمن في الاستلاب الثقافي وهو ما ركز عليه الكاتب السوسوة كثيراٍ فالمثقف هو ضمير الأمة ووعيها وكيانها إذا فسد فسد كل شيء في الحياة وإذا خسرته الأمة خسرت كل شيء. وليس خفياٍ على أحد أن أكثر أسباب مآسي الأمة وأوجاعها يأتي بسبب استلاب وعي المثقف وروحه. حتى أصبح بلا فكر ولا معرفة ولا إحساس لأنه تخلى عن دوره الحقيقي المتجسد في ممارسة النقد البناء لكل مساوئ المجتمع وأخطائه. ولأنه حول طاقاته الإبداعية إلى أدوات هدم وكراهية وعنف بدلاٍ من استغلالها في تأسيس قواعد الحب والجمال والبناء والنهضة.