في مشهد جيوسياسي متوتر وديناميكي، فرضت «الطلقة الأخيرة من طهران» على كيان الاحتلال قبول وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ صباح الثلاثاء. لم تكن هذه النهاية مجرد حدث عابر، بل كانت لحظة تاريخية فاصلة كشفت أن قرار نتنياهو بـ «فتح بوابة النيران الإيرانية على إسرائيل» كان «أكبر خطأ استراتيجي». هذا الخطأ لم يقُد فقط إلى انتصار إيراني كبير، بل رسخ حق طهران الراسخ في الحفاظ على استقلاليتها وحماية سيادتها من أي اختراق.
الثورة / يحيى الربيعي
يتعمق هذا التحليل في التداعيات العميقة للضربات المتبادلة، بدءاً من العدوان الصهيوني على إيران، ووصولاً إلى عملية «الوعد الصادق 3». سنركز بشكل خاص على الدور الحاسم للاستنزاف الاقتصادي الشديد في فرض انتصار طهران وتأكيد حقها في الاستقلالية والسيادة في ظل التحديات الراهنة.
استنزاف موارد العدو وفرض واقع الانتصار
الفشل الاقتصادي والعسكري لكيان الاحتلال لا ينفصل عن إفلاسه السياسي، ويمثل امتداداً لسلسلة إخفاقات في جبهات أخرى (غزة، لبنان، اليمن) التي استنزفت موارده. لقد أضافت عملية «الوعد الصادق 3» طبقة جديدة من الفشل، مؤكدة أن الاحتلال بات محاصراً وأن قدرته على شن الحروب محدودة بفعل الكلفة المتزايدة.
وتأتي تصريحات مسؤولي الكيان لتعزز هذا الاستنتاج؛ فقد أقرّ عضو «الكنيست» عميت هاليفي ببقاء النظام الإيراني وقدرته على استهداف «إسرائيل»، واعترفت صحيفة «معاريف» بأن «إيران خرجت من الحرب أقوى». كما أكدت منصة إعلامية إسرائيلية أن الفشل الاستراتيجي دفع الكيان «لرفع الراية البيضاء»، وأن «وعي الانتصار في نفوس الأعداء… أخطر بكثير» من السلاح النووي، وأن «في السابع من أكتوبر، رأينا بأعيننا أنه لا حاجة لقنبلة نووية لدفع إسرائيل إلى حافة الهاوية».
في ظل هذا الفشل الذريع، بات لزاماً على الكيان الصهيوني التخلي عن التعنت وإعادة قراءة المشهد بناءً على معادلات الردع الإيرانية الجديدة التي فرضتها الكلفة الاقتصادية الباهظة. وبالتالي، كان عليهم القبول بوقف إطلاق النار والتخلي عن الأهداف المستحيلة. لقد كانت «الطلقة الأخيرة من طهران» هي التي أجبرت العدو على الاستسلام.
المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أعلن أن إيران حققت نصراً، وأجبرت الأعداء على طلب وقف إطلاق النار. وأكد رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، أن إيران خططت لعدم توقف مسار الصناعة النووية، مؤكداً فشل المحاولات الأمريكية الإسرائيلية في إيقاف البرنامج النووي.
هذا الانتصار الاقتصادي والعسكري يرسخ حق طهران في الحفاظ على استقلاليتها وحماية سيادتها من الاختراق. تؤكد طهران حقها السيادي في تطوير برنامج نووي سلمي وفقاً لمعاهدة حظر الانتشار النووي(NPT)، وتعتبر أي محاولة لعرقلة هذا الحق انتهاكاً لسيادتها. التوتر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة بعد قرار البرلمان الإيراني تعليق التعاون، يعكس اتهامات إيرانية للوكالة “بالتجسس وتسريب معلومات حساسة”، وأن تقاريرها استُخدمت “كغطاء للعدوان الإسرائيلي والأمريكي”.
حق طهران في حماية سيادتها يمتد إلى حماية علمائها، بعد اتهامات بتسريب أسمائهم واستهدافهم بالاغتيال. التصديق البرلماني على قانون تعليق التعاون مع الوكالة يؤسس “تأطيراً قانونياً” لتقييد حركتها وحماية المعلومات، ويعكس عزم طهران على الدفاع عن النفس. الموقف الروسي الداعم لإيران، والذي يرى أن الوكالة تبنت “موقفاً منافقاً” ومنحت “غطاء” للهجمات، يعزز رواية طهران.
إن إصرار طهران على حقها في السيادة والاستقلالية يعقد المشهد التفاوضي، ويُجبر الأطراف الأخرى على احترام أمنها وعدم التدخل في شؤونها. الانسحاب من البروتوكولات الإضافية هو وسيلة لـ “رفع سقف المطالب” الإيرانية. هذه المواجهة ليست مجرد جولة عسكرية، بل لحظة فارقة في تاريخ المنطقة، تُعلن عن نهاية حقبة الهيمنة الإسرائيلية، وتُبرز قوة محور المقاومة في فرض معادلات جديدة تُغير موازين القوى الإقليمية. الكلفة الباهظة التي دفعها الاحتلال ستكون بمثابة ناقوس خطر يُجبره على إعادة حساباته، وتؤكد الانتصار الإيراني بقوة الاستنزاف الاقتصادي، الذي رسخ حقها في السيادة.
ثنائية الفشل الاستخباراتي والكلفة الاقتصادية
الضربات الإيرانية لم تستهدف الأرواح فحسب، بل ألحقت دماراً مادياً هائلاً فرض على الاحتلال تكاليف دفاعية تجاوزت قدرته، ما أثر مباشرة على قدرته على مواصلة الحرب. في الأسبوع الأول من المواجهة، قفزت تكلفة اعتراض الصواريخ إلى نحو 1.5 مليار دولار، كاشفة عن الأسعار الفلكية لمنظومات الدفاع الصهيونية (من 70 ألف دولار لـ»القبة الحديدية» إلى 15 مليون دولار لـ»ثاد»). هذا أظهر خسائر متراكمة لا ترحم.
أطلقت إيران ما بين 500 إلى 550 صاروخاً باليستياً وأكثر من 1000 طائرة مسيرة. كل صاروخ سقط أدى إلى 4000 مطالبة بالتعويض من المستوطنين. وتم إجلاء نحو 18 ألف صهيوني، أغلبهم إلى فنادق. الأضرار تجاوزت المنازل لتطال منشآت حيوية حساسة مثل معهد «وايزمان» ومصفاة «بازان» في حيفا، حيث تقدر بمليارات الدولارات. مدير قسم التعويضات «أمير دهان» تلقى نحو 40 ألف مطالبة خلال أسبوعين، وتوقع وصولها إلى 50 ألفاً، مؤكداً دفع 1.5 مليار دولار حتى الآن. وأشار إلى أن أضرار معهد «وايزمان» وحدها 2 مليار شيكل (نصف مليار دولار)، و25 مبنى بحاجة للهدم.
قيادة الجبهة الداخلية أعلنت تدمير أو تضرر نحو 240 مبنى (2000 شقة سكنية)، وفقدان 9 آلاف شخص منازلهم. تقرير «كالكاليست» أكد إجلاء 5000 إسرائيلي، وسعي الحكومة لإجبارهم على العودة لمنازل مدمرة.
الكلفة الإجمالية للقتال على الاحتلال منذ 7 أكتوبر 2023 بلغت نحو 51.5 مليار دولار، وارتفع الإنفاق اليومي إلى 490 مليون دولار لمواجهة إيران، إضافة إلى أضرار بـ 571 مليون دولار على الجبهة الداخلية. يحذر خبراء الاقتصاد من اقتراب الضرر الاقتصادي الشامل من حاجز 250 مليار دولار.
«يديعوت أحرونوت» أشارت إلى أن «كل اعتراض يكلف عشرات الملايين يومياً»، بينما كل صاروخ يخترق الدفاعات يحدث دماراً ويؤثر على ثقة الجمهور. وتقرير أمريكي أشار إلى أن الكيان قد يصمد 10-12 يوماً فقط دون دعم أمريكي. الفشل الاستخباراتي في رصد صاروخ حيفا، الذي أقر الجيش بأنه «لم يتم اكتشافه بشكل صحيح»، كشف عن عجز كبير في المنظومات الدفاعية والاستخباراتية، ما ضاعف الكلفة المادية والمعنوية.
الانهيار الاقتصادي يؤسس للانتصار
تُعدّ الكلفة الاقتصادية للعدوان الإسرائيلي هي الفاتورة الأكثر إيلاماً للكيان، وهي التي عجّلت في فرض معادلة الانتصار الإيراني. الدعاوى المقدمة لصندوق التعويضات (38,700 دعوى) تعادل «أكثر من نصف عدد الدعاوى التي قُدّمت خلال سنة وثمانية أشهر» منذ 7 أكتوبر 2023، في مؤشر على حجم الضرر المتراكم.
تركزت الدعاوى (65% منها) في مركز «تل أبيب» (غوش دان)، ما يؤكد استهداف الضربات الإيرانية للشريان الاقتصادي والحيوي للكيان. هذا الدمار طال النسيج المجتمعي؛ حيث أُخلي نحو 11 ألف شخص إلى فنادق، و4,000 آخرون يقيمون لدى أقارب.
وصف القناة «12» الإسرائيلية لشوارع «تل أبيب» بأنها «خاوية» و»المدينة ببساطة تفرّ من نفسها»، و»غالبية السكان غادروا المدينة»، يعكس شللاً اقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق. «طيران العال» تلقى 25 ألف طلب لرحلات إلى الخارج في يوم واحد، شاهداً على حجم الهجرة المعاكسة والهلع الاقتصادي.
تقدر تقارير إسرائيلية تكبد الاحتلال قرابة 5 مليارات دولار للإنفاق الهجومي والدفاعي، و1.44 مليار دولار لتغطية التعويضات. وتتوقع الأسواق عجزاً حكومياً يتجاوز 6% هذا العام، ما يشير إلى أزمة اقتصادية عميقة تُهدد استقرار الكيان. وكالة «ستاندرد آند بورز» حذرت من احتمال خفض تصنيف «إسرائيل» للمرة الثالثة، مؤكدة أن التصعيد العسكري قد يضعف الاقتصاد والمالية العامة، ما يدعم فرضية الانتصار الإيراني عبر الاستنزاف الاقتصادي.
معادلة الردع الجديدة.. حقائق على الأرض
لقد أثبتت عملية «الوعد الصادق 3» أنها جاءت إيذاناً ببدء حقبة جديدة في المنطقة، حيث فرضت إيران معادلة ردع قائمة على الاستنزاف الاقتصادي للكيان الصهيوني. لم تعد القوة العسكرية وحدها هي المحدد الأوحد لموازين القوى، بل أصبحت القدرة على إلحاق خسائر اقتصادية فادحة هي السلاح الفعّال الذي يُجبر الخصم على التراجع.
الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدها الاحتلال، والفشل الاستخباراتي غير المسبوق، وتداعيات «تل أبيب الخاوية»، كلها مؤشرات لا تقبل الجدل على أن «الطلقة الأخيرة من طهران» قد أصابت عمق الكيان. هذا الواقع الجديد يؤكد على حق طهران الراسخ في سيادتها واستقلاليتها، ويجبرها على التمسك ببرنامجها النووي السلمي وحماية علمائها، رافضة أي تدخل خارجي.
في المحصلة، لم يكن وقف إطلاق النار مجرد هدنة مؤقتة، بل هو اعتراف ضمني من كيان الاحتلال بأن الكلفة الاقتصادية للحرب الإيرانية أصبحت باهظة وغير محتملة. هذا الانتصار غير المسبوق لطهران يرسخ قواعد اشتباك جديدة في المنطقة، ويؤكد أن محور المقاومة قادر على فرض إرادته وتغيير موازين القوى، ليس فقط بالصواريخ والطائرات المسيرة، بل بقوة الاستنزاف الاقتصادي الذي لا يستطيع العدو تحمله.