في غزة، لا يطرق العيد الأبواب، بل تمر أيامه خجولة، حزينة، تتوارى خلف أصوات القصف والجوع وصمت الخيام، هنا لا جديد في هذا العيد سوى مزيدٍ من الفقد، ومزيدٍ من القبور المفتوحة، ومزيدٍ من الأطفال الذين ينتظرون آباءً لن يعودوا، أو أمهاتٍ خطفهم الموت تحت الركام.
هذا هو العيد في قطاع محاصر منذ سنوات، ويُذبح منذ عشرين شهرًا بسكين الاحتلال على مرأى من كل العالم، في غزة لا تُذبح الأضاحي، بل يُذبح الناس، لا تنحر الخراف، بل تُنحر الطفولة، وتُصلب الأمهات على مذابح الفقد، وتُطحن العائلات تحت الحمم والنيران، تُسفك الدماء لا تقرّبًا إلى الله، بل على مذابح التهجير والإبادة.
في هذا العيد، لا توجد ملابس جديدة، لا أحذية لامعة للأطفال لا ألعاب لا حلوى لا زيارات عائلية لا عناق، لا حتى قبور منظمة يمكن وضع الورود عليها كل شيء مفقود كل شيء مدفون تحت الإسمنت المكسور، تحت ركام البيوت التي كانت يومًا دافئة.
هُجّرت العائلات من بيوتها، واقتلعت من جذورها، وألقت بها يد الاحتلال في خيام لا تقي حرًّا ولا تصدّ بردًا، ولا تحفظ كرامة، ولا تستر وجعًا، يخاف الأب من عين طفلته التي تسأله عن ثوب العيد، يخاف من السؤال البريء: «هل سنعود إلى بيتنا؟» فلا يملك إلا أن يبتسم بانكسار ويشيح بوجهه.
أما الأمهات، فصامتات يخبئن دموعهن كي لا ينهار كل شيء، يتقاسمن رغيفًا واحدًا أن وجد على سبعة، ويقمن الليل على دعاء لا ينقطع، يرقبن السماء التي لا تمطر سوى النار.
الطفل في غزة لم يعد يكتب قائمة أمانيه في العيد، لم يعد يطلب دراجة، أو كرة، أو ساعة يد، أصبح يتمنى فقط أن يعيش، أن لا يُقصف في الليل، إن يجد كسرة خبز، أن لا يسمع أمه تصرخ أو أخته تبكي أو جاره يُنتشل من تحت الردم.
عيدٌ آخر يمر على غزة، كأنه يوم حداد جماعي، عيد بلا زينة، بلا فرحة، بلا ضحكة تنبع من القلب، وحدها رائحة الموت تملأ الشوارع، وحدها المقابر تزدحم، وحدها الأمهات يُجبرن على أن يكنّ أقوى مما يحتمل القلب.
مع كل فجرٍ جديد، تواصل إسرائيل حربها على البشر والحجر، تحاصر أرواحًا أرهقها القصف والجوع، وتجعل من المعابر أبوابًا مغلقة أمام كل ما يمكن أن يمنح الحياة بصيص أمل، لم يعد الفلسطينيون ينتظرون شيئًا من العالم، فقد صمّت الآذان، وغلّقت القلوب، وتواطأ الصمت مع القاتل.
يمر العيد على أمٍّ تجلس إلى جانب قبر ابنها الذي كان يجهّز ثوبه الجديد قبل عام، على أبٍ يحمل صور أطفاله الأربعة الذين قضوا في ضربة واحدة، على فتاة صغيرة ما زالت تنام كل ليلة في حضن ذاكرة لم يمحُها النزوح.
وفي ختام هذه المأساة التي لا تنتهي، لا نملك إلا أن نقول:
– ليس هذا عيدًا، بل اختبارٌ لصبر أمّة، ونزفٌ مستمر في خاصرة الكرامة.
– هل يُعقل أن يحتفل العالم، وفلسطين تبكي؟ هل يُعقل أن تُزين العواصم بالأضواء، وغزة تُضاء فقط بنيران القصف؟
– يا عيد، لا تزر هذه الأرض المفجوعة، فهنا لا فرح إلا بالنجاة، ولا زينة إلا شواهد القبور، ولا نحر إلا للقلوب.
– عيد غزة هذا العام لا يشبه الأعياد، إنه جنازة مؤجّلة، وبكاء مكتوم، ودعاء يتيم يصعد إلى السماء:
– يا رب، خذ هذا العيد عنّا… وأعد لنا من نحب.
* كاتب فلسطيني