
لقاء /صقر الصنيدي –
لم نفكر أننا قادمون من مناطق مختلفة
على بعد ثمانين كيلو متراٍ من عدن يوجد رجل لم يسبق له ان تحدث عما شاهده قبل واحد وخمسين عاما وليس مهتما بتمثيل دور البطولة فيما يرويه في زمن يكثر فيه قناصو الأوسمة .
لقاء /صقر الصنيدي
محمد يحيى الأميري واحد ممن عايشوا تلك الفترة التاريخية الهامة وذلك اليوم العظيم ولم تغادره ذكريات الأيام الأخيرة للاستعمار وملامح الفرحة اليمنية باستعادة الأرض وثبات الإنسان .
أتى كالمئات من اقرانه نحو عدن قادما مما كان يعرف بالشطر الشمالي باحثا عن مستقبل جديد وفارا من واقع بائس – بدت له تلك المدينة كنجم يدله على وجهته مستعينا ببعض النصائح والقليل من المعارف ليصبح جزءاٍ من القادم .
اجتاز بعضا من رفاقه مياه البحر العربي نحو شواطئ جديدة وفضل الأميري البقاء في عدن المدينة التي تتهيأ للنصر على الغرباء وتجاوز 128 عاما من الاحتلال المسلح أراد البقاء لعدة أسباب بينها رؤية ما ستتصرف به مدينة مكبلة وحتى يتسنى له ذلك لابد من عمل يقيه وجع الحاجة وهم الاحتياج فبدأ البحث عن فرصة عمل في الأرض التي عاملته بتقدير .
الالتحاق بالعمل
عاد إليه احد معاريفه ذات مساء حيث يتشارك السكن مع الآخرين حاملا معه وظيفة جيدة للشاب المتحمس وتحتاج منه إلى إثبات ذات وقوة تركيز ومهارة ومع مرور الوقت أصبح الأميري متمرسا في العمل ضمن مشروع إمداد عدن بالمياه الآتية من لحج .
مازال الوقت باكرا على قيام ثورة الرابع عشر من أكتوبر وهو ما لم تؤمن به النقابات العمالية في عدن والتي بدأت تطرق أجراس الاستعمار ” كان لدى العمال إرادة لإرباك البريطانيين والدفع بهم للمغادرة وكانوا يعرفون قيمة ما يقومون به ” يقول الأميري الذي ترك عمله عدة مرات تحت دواعي الإضراب العمالي ” هناك من أراد الاتجاه بالمطالب نحو عصبيات ودعوات مناطقية منها أن العمل في المشاريع الهامة والكبيرة يجب أن يقتصر على أبناء الجنوب فقط ولا يشمل القادمين من مناطق الشمال وكان هناك من يغذي هذا الاتجاه ليزرع التفرقة بين العمال.. ونجحت تلك الدعوات في البداية وتمكنت من إبعاد أبناء المناطق الشمالية من أعمالهم في المشاريع وإحلال غيرهم للعمل كبديل لكنها لم تفلح هذه الخطوة ولم يتمكن من تم إبدالهم للعمل من انجاز المهام بدقة وعاد العمال أصحاب المهارة للعمل بغض النظر عن مناطق قدومهم .
وانتهت تلك الدعوات وتوحدت صفوف العمال مجددا ليمارسوا ضغوطات على قيادة المشاريع وهي خطوات اعتبرت فيما بعد ذات اثر كبير .
وكنوع من الإنصاف يقول محمد يحيى: إن المعاملات المدنية معهم كعمال لم تكن قاسية وكانت تتحسن كلما ارتفعت الأصوات المطالبة برحيل المستعمر الأجنبي .
واضاف”: كنا نحصل على أجور جيدة وإجازات سنوية تمكننا من العودة إلى أهلنا وزيارة مناطقنا ثم نعود إلى اعمالنا ” وخلال هذه الرحلة إلى الريف القريب من تعز والعودة .
وحول مسألة الشعور بوجود الحدود والتمايز بين الشطرين يرى يحيى أن هذا الإحساس لم نلقاه مطلقا إلا عندما بدأت المصالح تتجاذبها الأطراف السياسية وعندها عرفنا أن هناك شمالاٍ وهناك جنوب ولكل شطر ميزة دون غيره وكانت لأجل مكاسب يتم الحصول عليها ثم تنتهي المصالح ومعها ينتهي التمييز بيننا ” .
كما أن رحلة الإجازة أرشدت محمد يحيى إلى وجود استعداد للقيام بثورة الرابع عشر من أكتوبر قبل قيامها بسنوات وان تعز أصبحت ملاذا لكل الثوار المطلوبين للسلطة البريطانية في عدن والذين كان يعرفهم ويشاهدهم بعد هروبهم إلى تعز خوفا من بطش الانجليز .
وفي عدن التحم أبناء الشمال مع أبناء الجنوب بمطالب موحدة وإرادة واحدة لأجل إخراج المستعمر وتفرغ كثير من القادمين من مناطق الشمال لخدمة المقاومة كما قال الأميري وكانت النوادي والجمعيات العمالية لأبناء الشمال متفقة على ضرورة إخراج المستعمر من الوطن وكان الجميع يعمل دون الإحساس بالخوف من العقوبات التي تنزل بالبعض ” .
وبالإضافة إلى النشاط للثوار الجنوبيين في تعز والذي كنا نراه ونشجعه عند عودتنا وعند سماعنا إلى بياناتهم الحماسية وعند قراءة منشوراتهم السرية التي تنتقل من بيت إلى آخر ومن منطقة إلى آخر بكل سرعة وسرية رغم وجود جواسيس للانجليز إلا أنها لا تصل إلى أيديهم وكانت تلك المنشورات تنشر الحماس معها وتزيل التردد الذي يعتري البعض أحيانا بإمكانية فشل الثورة تماماٍ من قبل القوة العظمى .
يقول الأميري: إن العمال كانوا يطلعون على تجارب العمال في الدول الأخرى التي تعاني من الاستعمار وقد استفادوا من تجاربهم في الضغط على الانجليز والتضييق عليه ” كانت هناك التجربة الهندية التي عرفناها من خلال صوت العرب او من خلال التجار الهنود المتواجدين في عدن وعددهم كبير وكانوا يمتازون بعلاقات طيبه مع سكان عدن .
الأميري
لم يكن محمد يحيى الأميري منتميا سياسيا لأي من حركات المقاومة التي اقتتلت فيما بعد عقب التحرير كان انتماؤه فقط لإرادة الناس ومطالبهم في الاستقلال وهاهو اليوم يحمل ذكرياته عن فترة هامة ويحتفظ بتفاصيلها لنفسه وللقليلين ممن يتقاسم معهم لحظاته الدافئة في حقوله التي يحييها دون كلل مبتعدا عن كل الأضواء والانارات الزائفة – شاركنا فرحة هذا العام رغم محيط الأحزان القائم لكنه يتمتع ببسمة رضا وحب لا يوصف وعتب شديد نحو أولئك الذين تركوا أحلام الناس وسعوا نحو الاقتتال وتحويل أسلحتهم من صدور العدو إلى صدورهم – يتذكر أسماء كانت كبيرة خلال زمن المقاومة إلا أنها تركت سموها وهبطت عقب ذلك لتصارع وتفني ذاتها – يتذكر الأسماء التي لمعت في سماء عدن في مواجهة الانجليز ودفعت حياتها ثمنا لمستقبل لم يحسن من خلفوهم بناءه لكنه يرى الضوء القادم من المحن ومن عتمة المصالح ويعتقد ان الأخطاء تكلف الكثير لكنها لا تصبح يوما صوابا .
محمد يحيى ليس حريصاٍ على لعب دور في الماضي ولم يغير حتى حدثا بسيطا لصالحه ذلك لأنه يعي أن التاريخ أمانة تكتب لتصل كما حدثت وليس كما نريدها .