
قراءة / محمد محمد إبراهيم –
حوافز التغيير يفرضها واقع لم يعدú صلاحه مأمولاٍ وتعززها مبادرات من الأوساط الشعبية المؤهلة
إدراك الجميع ضرورة إعفاء قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014م من أن يكون راحلة العبور حتى يأخذ قيمته من واقع ما يقرره اليمنيون
* لم يعد أمام اليمن إلا عبور المضيق أو الموت فيه فالقرار (2140) أغلق باب خيار العودة لكن العبرة في مدى أثر هذا القرار
لم تكن الهوية اليمنية مشكلة حتى في زمن التشطير بل كانت عنوان الارتباط المصيري لليمنيين الذي عبرت عنه ثورتا سبتمبر وأكتوبر
خلص الدكتور ياسين سعيد نعمان في أحدث كتاب له إلى أن ثورتي سبتمبر وأكتوبر عبرتا عن الهوية الوطنية كعنوان للارتباط المصيري لليمنيين نافياٍ أن تكون الهوية مشكلة في يومُ ما معتبراٍ الحوار الوطني محطة تختزل نصف قرن من النضال
قبل الخوض في تقديم رؤوس الرؤى التي تضمنها كتاب (عبور المضيق – في نقد أولي للتجربة..) للمفكر السياسي المخضرم الأديب الدكتور ياسين سعيد نعمان نائب رئيس مؤتمر الحوار الوطني الشامل- أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني تجدر الإشارة إلى أن الأهم في هذا الكتاب هو أن مؤلفه ركز بجدية الطرح وصراحته في 14 محوراٍ فكرياٍ حول ثلاث قضايا محورية الأولى: التلخيص بدقة كبيرة وبإشارة خاطفة وغير مباشرة إلى الخلفية التاريخية المعاصرة لمسار العمل السياسي والاجتماعي وتعثر مشاريعه عند قيود قوى النفوذ.. والثانية: الحوار الوطني كوسيلة اختارها اليمنيون في راهن صعب يشكل مضيقاٍ بالغ الخطورة فأمام كل من فيه خيارا الموت فيه أو العبور منه بعد إغلاق باب العودة من المضيق بقرار أممي لتحتدم أسئلة كفاءة ونجاح واكتمال عوامل أمان هذا العبور بعد تفكيك قوى النفوذ والسلطة إلى أكثر من نسيج متناقض ومتنافر مع بعضه ولكن ضرورة خيار العبور فرضت التعايش الذي لم يكن بمنأى عن الحذر من احتمالات إعادة تكريس ماضي التحكم بسير العبور أو بمستقبل ما بعد العبور.. فيما القضية الثالثة ركزت على العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة والمساهمة في تحفيز وخلق محاولة العبور ومساعدة اليمنيين على ذلك في لحظة تاريخية لم تحدث ولن تتكرر في أيُ من بْلدان الربيع العربي أن تلتقي فيها الإرادة اليمنية والإجماع الإقليمي والدولي في مضيقُ تتكثف في ركبه العابر مناطق الزمن الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل)… في هذا المادة سنرى ماذا قدم الأستاذ ياسين سعيد نعمان من خلاصات فكرية ذات أبعاد سياسية في طيات هذا الكتاب ذي اللغة الأدبية الفارعة والمقتربة كثيراٍ من تصنيف الأدب السياسي الواقعي..
قراءة / محمد محمد إبراهيم
mibrahim734777818@gmail.com
(من زمن قديمُ / نـِمِتú على قبر أمي / شْجيرات / تطلق أزهاراٍ / لها لون محياها.. / ولها عبق شعرها / و سحúر عينيها / وصفاء روحها / ووضوح كلماتها / على يديها وعلى حافة قبرها / تعلِمت/ أن للكلمة ثمناٍ هو الموقف / وأن الموقف يعنى التضحية / وأن حاصل جمع: / الثمن في الأولى / والمعنى في الثانية / هو الحياة!).
بهذا الإهداء الجميل والشاعري صدر المؤلف الأديب والمفكر السياسي ياسين سعيد نعمان كتابه (عبور المضيق في نقد أولي للتجربة..) كجزء أول ليقود القارئ إلى فضاء دلالي أوسع وأكبر من أن يْحصر الإهداء لأم المؤلف رحمها الله إذ أن اليمن الحاضرة بوجعها المزمن في هذا المقام هي الأم الأولى للمؤلف والقارئ وهذه ميزة الأديب التي تسبق مزايا السياسي دائماٍ.. وحين يطل السياسي من نافذة الشعر والسرد المتدفق من نزعة الأدب السياسي الواقعي تكون له بصمته الفريدة في دلالات الكلمة خصوصاٍ في اليمن حيث تفرض بيئة الصراع أحقية السياسة في صدارة الاهتمامات النخبوية والشعبية في مجتمع عاش عمره فصولاٍ من تجاذبات العاصفة السياسية فتشرِب اليمني –أيا كان موقعه في المجتمع – الفعل السياسي جدلاٍ وعصبيةٍ بالخبرة والبديهة حتى نجح هذا الوضع في فرض واقع ذهني يفيد بأن السياسي بخبـúرة القبúيِلة يتغلب دوماٍ على السياسي بخبúرة المعرفة لقْرب الأول من خصائص المجتمع المركبة على البْعد القبلي والعشائري والسلطوي.. لكن وسط جحيم من صراع القوى الكفيلة بإسقاط كل المشاريع السياسية المعرفية الناضجة قلما تجد سياسياٍ جمع بين المعرفة وخصوصية التأثير الاجتماعي ذي البعد القبلي.. ونادراٍ ما تجد سياسياٍ يحمل روح الإنسانية بأدبه وتكوينه المعرفي الحامل لهم الكتاب كمشروع تدويني ومعرفي يؤرخ لأهم المحطات السياسية الفارقة في تاريخ الشعب اليمني.. لهذا فقد سجل السياسي الدكتور نعمان بادرة تعكس نضج وعيه المعرفي والانساني والسياسي وخبرته العملية والمعرفية في سبر أغوار التجارب السياسية اليمنية المعاصرة.. ليس لأن الأستاذ الجليل الدكتور ياسين سعيد نعمان جمع بين السياسة والأدب وأنسن المشهد الاجتماعي الأهم في حاضر اليمنيين وكما لو أن ركبهم يتشظى حيرةٍ ويلتهب شوقاٍ لعبور مضيق السياسة الذي شكل عقبة تاريخية حالت دون قدرتهم على تحويل الجغرافيا من خارطة صراع سلطوي إلى وطن يقي أبناءه الهجرة المعيشية والمنافي السياسية بل ولأن الأستاذ نعمان عمِد في هذا الكتاب إلى اختزال معضلة الشعب اليمني السياسية المزمنة من خلال وقفة مستفيضة على تجربة الحوار الوطني الشامل الذي اعتبره المؤلف أهم محطة تشكل خلاصة لنضالات اليمنيين خلال نصف قرن…
دافع الكتابة وأسئلة الوطن
( لم تكن فكرة الكتابة في هذا الموضوع قد اختمرت في ذهني قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014 والذي يضع اليمن تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لم تثر الفكرة عندي حماسة الكتابة في ذلك الوقت الذي كانت تحتدم فيه الأحداث في أكثر صورها تعبيراٍ عن مخاضات عسيرة لولادة متوقعة للجديد.. فقد اعتبرتها مهمةº ولكن مؤجلة إلى الوقت الذي تتم فيه الولادة وتصفو فيه الروح وتكون المشاعر قد هدأت وتخلصت من تأثير الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظات الدرامية التي ابتلعت جزءاٍ هاماٍ من الحوار في واحد من أكثر المشاهد ملهاة واستخفافاٍ بالمعاني الأصيلة لقيمته في حياة اليمنيين).
هكذا يقول المؤلف الدكتور ياسين سعيد نعمان في المدخل التمهيدي للكتاب في إشارة لعواصف التحديات السياسية التي كانت تهدد الحور بالانهيار وما حدثت في قاعات المؤتمر من خلافات جانبية حادة عززت إصرار النخب الإدارية القائمة على ربط أحزمة الصبر والمثابرة ووضع التوقعات على قارعة الاحتمالات المفتوحة ويرافق هذا دفق الأمل الذي كان يشجع الجميع ويعد الاختناقات بالانفراج(….)
ويتساءل نعمان: هل الوطن مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط ورعية وحقوق منهوبة وحريات مغتصبة واستعباد اجتماعي…¿ أم أن الوطن قيمة أنبل من كل القيم الأخرىº قيمة جامعة لكل القيم التي تجسد الإنسان في كامل صورته كمستخلف على هذه الأرض ومن هذا الاستخلاف يستمد انتماءه وحقوقه وحرياته كمواطن لا كرعوي كسيد على الجغرافيا لا كمسود كصانع لحياته لا كمهمش ينتظر الإحسان من مغتصبي حريته وحقوقه¿ البلدان التي بقيت مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط ورعية وفشلت في أن تتحول إلى وطن يْجسد المعنى الإنساني للحياة على هذه الجغرافيا راوحت في مكانها وغرقت في التخلف والصراعات والعنف وتعرضت للانهيارات المستمرة.
ويقول نعمان مجيباٍ عن هذا التداعي الاستفهامي العميق: “يجب أن نعرف أن “الأوطان” لا تصل إليها الشعوب بقرارات دوليةº فهي عملية موضوعية نضالية تعتمد في الأساس على إدراك الشعوب لما تعنيه كلمة “الأوطان” في حياتها وأن النضال من أجلها يستحق التضحيات”.. نافياٍ استطاعة أحد ما أن يهبنا “وطن” ما لم تكن الحوافز لدينا للوصول إليه أقوى مما في معادلة الحياة من تحديات وما لم نكن مستعدين للعمل الجاد من أجل الوصول إليهº ذلك الاستعداد الذي تحركه دوافع أن نعيش ونحيا بكرامة بعيداٍ عن ضغوط الهجرة وجراح الترحيل. مؤكداٍ أن الحوافز القوية للتغيير لا تنشأ في التجربة التاريخية إلا في واقع انحط ولم يعد هناك أمل في إصلاحه. وهذه الحوافز تطلقها مبادرات تأتي من الأوساط الشعبية المؤهلة للقيام بهذه العمليات التاريخية…
خيارات التحول إلى وطن
تحت هذا العنوان يقول الدكتور ياسين سعيد نعمان: منذ 2007 وحتى 2011 استعاد الشعب المبادرة وكان الشباب والنساء في الصدارة. فالحراك السلمي في الجنوب والذي بدأ يتشكل منذ ما بعد حرب 1994 في صورة احتجاجات ومصادمات مع النظام على إثر الإجراءات التصفوية والقمعية… مؤكداٍ أن هذا الحراك كان رائداٍ في إطلاق المبادرة الثورية السلمية التي احتشدت فيها الجماهير على ذلك النحو الذي شكل حالة سياسية ثورية كان لها تأثيرها البالغ بعد ذلك في إخراج الحياة السياسية من جمودها وتحريك العوامل الثورية لتشتعل البلاد كلها بعد ذلك بثورة التغيير السلمية.. مشيراٍ إلى أن هذه اللحظة كانت بداية النهاية لمرحلة وبداية البداية لمرحلة أخرىº أي أن هذه البداية تتحقق في رحم نهاية مرحلة سابقة مع كل ما يرتبه ذلك من تصادمات مسموح بها.
ويرى نعمان أن التعايش بين البدايتين يجب ألا يعكس جموداٍ وإنما حراكاٍ ديناميكياٍ ينتج البديل الذي يتوقف نجاحه على قدرته في توسيع مساحة هذا الحراك على الصعيدين السياسي والاجتماعي دون الإخلال بشروط التسوية التي قامت على الالتزام بالتغيير السلمي عبر الحوار والتعايش والمشاركة الوطنية… وأن التساؤلات المهمة في هذه الحالة هي: كيف سنمر¿ ومتى¿ وعلى أي “راحلة”¿ وما هي أدواتنا المكملة للحوار للمرور إلى المرحلة القادمة.. ¿.. مؤكداٍ من بعدُ وطني بحت ضرورة أن لا تكون هذه “الراحلة” هي قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014. بل يجب أن يعفى من هذه المهمة حتى يأخذ قيمته من واقع ما يقرره اليمنيون من مسؤولية على عاتقهم تجاه بناء مستقبلهم. هذا على افتراض أن نخبه قد استوعبت الدرس وأدركت أن القرار يلوح بإدانة تاريخية لفشلهم في إدارة بلدهم… موضحاٍ أن هذا القرار شكل حدثا استثنائيا لم يكن معزولا عن تطورات الأحداث التي عاشها اليمن خلال السنوات الماضية..
وقدم الدكتور ياسين سعيد نعمان تشخيصاٍ واقعياٍ للعوامل الداخلية والخارجية التي أفقدت قوى السيطرة تأثيرها القديم على الأحداث لتدرك أن من يفكر بالتأثير على مجريات التسوية السياسية وما شهدته من أحداث- ولو حتى برضى المجتمع الدولي أو أطراف فيه- ستعمل على إعادة البلاد إلى مربع الصراع وهذا ليس لصالحها.. وفي هذه الحالة يرى نعمان أن إعادة إنتاج الصراع اليوم ستكون عملية أكثر تعقيداٍ..
وقال الدكتور ياسين سعيد نعمان : إن المشهد الذي شكل حالة توسط مربكة بين الثورة السلمية والانزلاق إلى الحرب الأهلية لن يغيب عن البالº فهذا المشهد هو نفسه الذي يتكرر وبصورة أوضح على الأرض كمشكلة أمام عملية التغيير التي يراد لها أن تتم بواسطة العملية السياسية. إن القوى التي تنام على ترسانة هذا السلاح هي نفس القوى التي ظلت تثير الحروب العبثية على نطاق واسع وتورط الدولة فيها بهدف إضعافها و”تفيْد” سلاحها في نهاية المطاف ليتحول إلى مصدر قوة لها. فكم هي الحروب التي أْشعلت وزْجِ بالدولة في أتونها للحصول على السلاح والمال والقوة! واستطاعت هذه القوى أن تزرع وكلاءها في جسم النظام للقيام بالمهمة في الوقت المناسب لتغدو الدولة مجرد مخزن لتسليحها في الوقت الذي يقرره وكلاؤها.
وأكد أن قصة السلاح في اليمن تعكس صورة التفريط في هيبة الدولة لصالح تلك القوى التي تشابكت معها النْخِبú الحاكمة عند مفاصل عديدة. لافتاٍ إلى أن قضية السلاح وما رتبته من حقائق على الأرض ستظل عائقاٍ أساسياٍ أمام نجاح هذا البلد في مغادرة الحلقة المفرغة للتخلف في صورته المركبة. معتبراٍ السلاح قاسماٍ مشتركاٍ لكل الصعوبات والتحديات ومحاولات التعطيل وأن حيازته بتلك الصورة تعكس خللاٍ جوهرياٍ في مفهوم الدولة حيث أخذت تتناسل من هذا المفهوم أنساق من السلوك الاجتماعي المعبر عن الفوضى وعدم الانضباط والتطاول على القانون والجرأة على إفساد كل محاولة لبناء دولة النظام والقانون.. كما فرضت معضلة السلاح جملة من الظواهر كالحروب والاغتيالات والاستعصاء على الوفاق في مسار مؤتمر الحوار لتشكل هذه الظواهر بيئة محبطة للروح التوافقية جعلت العملية السياسية مضغوطة بكماشة تلك القوى (……)
المضيق.. العبور منه أو الموت فيه
المضيق بحد ذاته الذي قصده الدكتور ياسين سعيد نعمان كعنوان الكتابه هو راهن اليمن السياسي الذي جعل كل القوى التي وصل صراعها إلى درجة توازن القوة أمام خيارات صعبة بين الحرب وخسران الجميع لمصالحه خصوصاٍ مع تأثير العامل الخارجي المتمثل في ضغوط المجتمع الدولي أو السلام حفاظاٍ على تلك المصالح وبالتالي التعايش والتسليم بضرورة عبور الجِمع السياسي اليمني إلى اليمن الجديد وبكل ما تحمله قوى الماضي من تمترس وقوى الحاضر من تعقيد وعوامل أكثر تأثيراٍ على سابقتها وقوى المستقبل من طموح بدولة مدنية حديثة متسائلاٍ ما إذا كان الحوار قد استطاع أن يشكل رافعة إنقاذ لعبور المضيق الذي صار وضع اليمن داخله أكثر تعقيداٍ وخطورة مما كان عليه وهو خارجه قبل أن يبدأ بالعبور. إذ لم يعد لديه من خيار سوى أن يعبر المضيق إلى الضفة الأخرى منه أما البقاء فيه فلن يكون غير قرار انتحاري.. معتبراٍ أن القرار (2140) قد أغلق باب هذه العودة.. ومستدركاٍ هذا الإغلاق بأسئلة تدور حول المدى الذي سيقتصر عليه أثر القرار على إغلاق باب العودة إلى الوراء¿ أم أنه سيساعد على توليد قوة الدفع للخروج من المضيق إلى الأمام حيث تنفتح لليمن آفاق النهوض والتطور محمولا بقواه المدنية¿..
وقال نعمان مجيباٍ على هذه التساؤلات: الحقيقة أنه لا معنى للقرار الأممي إذا اقتصر أثره على إبقاء اليمن في المضيق بمنع العودة إلى الوراءº لأنه في هذه الحالة لن يعمل أكثر من تأبيد بقائه في وضع التآكل… موضحاٍ أن اليمن غادر بفعل الثورة موقعه القديم الذي تجمد فيه وأخذ يتآكل بمعدلات أخذت تتزايد طردياٍ مع مرور الزمن وتحرك على عجل نحو المضيق الذي كان لا بد أن يِعúبْـر من خلاله إلى الطرف الآخر وباتجاه أن يصبح وطناٍ…
وحول الأسئلة العديدة التي تثار حول القرار الأممي قال نعمان في كتابه تحت عنوان – القرار بين الأمس واليوم أسئلة لا تنتهي- : تساءلوا عن موقف المجتمع الدولي ورعاة المبادرة من أعمال العنف التي اتسعت على نطاق واسع وتفجيرات أنابيب النفط وتدمير أبراج الكهرباء ونزع الألياف الضوئية وتفجير المعسكرات والاغتيالات والاختلالات الاقتصادية والمعيشية التي عانى منها الشعب على ذلك النحو الذي أخذ يهدد العملية السياسية والحوار ويدخل البلاد في دوامة المواجهة والانزلاق نحو الحرب الأهلية مجدداٍ.
وأضاف نعمان : تحدثوا عن الدعم المطلق للرئيس التوافقي هادي وكان هذا موقفاٍ لا غبار عليهº ولكن عندما قلنا للمجتمع الدولي إن الرئيس هادي هو المرجعية الوحيدة التي نثق بقدرتها ونزاهتها في أن تخبركم عمن يقوم بهذه الأعمال التخريبية التي تعرقل العملية الانتقالية لم يصغ أحد إلى ذلكº لماذا¿! وأخذت أعمال التخريب تتسع. لربما فهم المخربون هذا الصمت أن هناك إشارة من مكان ما إلى وضع هذا التخريب في إطار ما يعرف بـ “الفوضى الخلاقة”. ولا ندري ما هو “الخلق” في تفجيرات أنبوب النفط وأبراج الكهرباء وفي الاغتيالات وغيرها من الأعمال التي شهدتها البلاد في تلك الفترة.
وقال أيضاٍ : لم يجد اليمنيون تفسيراٍ واضحاٍ لتأجيل القرار إلى الآن غير واحد من ثلاثة تفسيرات هي : إما أن المجتمع الدولي كان يرى أن اليمنيين قادرون على تنفيذ اتفاقهم السياسي الذي رسم ملامح المرحلة الانتقالية وأهدافها أو أن المجتمع الدولي قد تصرف بقدر من التروي تجاه العملية السياسية اليمنية والحوار على وجه الخصوص ورأى أن يترك لها حرية السير إلى النهاية التي يقررها اليمنيون مع ذلك القدر من الرعاية الأممية التي شملتها قرارات مجلس الأمن وخاصة القرار رقم (2051)º أو أن المجتمع الدولي كان يرقب الحراك السياسي وقد قرر ألا تؤدي العملية السياسية واتفاقات التسوية إلى انتصار طرف على آخر لاسيما وأنه لم يكن يثق كثيراٍ في المعارضة الممثلة في اللقاء المشترك أحد طرفي اتفاق التسوية السياسية بأن تنفرد بالحكم مثلما لم يعد يرى أن المؤتمر الشعبي الطرف الثاني مؤهل لمواصلة الحكم وقيادة البلاد ومن هذا المنطلق أخذ على عاتقه أن يرعى التسوية مع ما يصاحبها من تخريب وعنف وفوضى وألا يتدخل في تلك المرحلة بعصا غليظة حتى لا يؤثر على ميزان التسوية.
ورداٍ على ذلك قال نعمان: من خلال ما عشته من وقائع وبالاستناد إلى وجهة نظر لا ترى المجتمع الدولي شراٍ يجوس خلال ديارنا يتصيد الأخطاء ليؤدب اليمنيين ويتقصد الانتقاص من سيادتهم ولا تراه خيراٍ كله وخصوصاٍ عندما تستعيد الحرب الباردة القديمة بعضا من أسبابها المسترخية تحت أكوام من المصالح الحيوية للدول الكبيرة التي رتبتها سنوات الاستقطاب الطويلة وكذلك حينما تصطدم قشرة الاستقرار الهشة الطافية فوق ركام من مخلفات الصراع بموضوع الأحادية أو التعددية القطبيةº وإنما تنظر إليه من الزاوية التي تبرز فيها الحاجة إلى السلام والاستقرار والتعايش والعمل المشترك للأمم في تعمير الأرض وحمايتها من أي مخاطر كأهم وظائفهº هذه الحاجة التي شكلها التوافق العالمي بعد حروب كونية تعرض فيها العالم للدمار مما دفع بتنظيم هذا الجهد على نحو مؤسسي يرعى ويحمي المصالح الدولية بما فيها مصالح الشعوب وقيم العيش المشترك.
وأضاف : كان المجتمع الدولي شريكاٍ فعالاٍ في احتواء الأوضاع الخطيرة التي مر بها اليمن. ولسنا بحاجة هنا لاستعراض تجربة تلك الشراكة بتفاصيلهاº فقد رسم القراران (2014) و(2051) الملامح الأساسية لهذه الشراكة. وفي محتويات هذين القرارين تأسست الخطوط العريضة لمعطيات هذا القرار الأخير رقم (2140) وحيثياته. لهذا يمكن القول إن المجتمع الدولي لم يكن وعلى مدى استمرار هذه الأوضاع في مواجهة مع اليمن ليفسر القرار وكأنه يستهدف سلامته وسيادته فالذي كان في مواجهة مع اليمن واستقراره هي تلك القوى والعصبيات الداخلية التي عطلت تقدمه وبناءه واستقراره.. مؤكداٍ أن المجتمع الدولي عندما تعامل مع قضية اليمن عمل كمجموعة متجانسة لم تكدرها تناقضات المصالح الحيوية التي برزت تجاه أكثر من حالة من حالات الربيع العربي وهو ما جعل الاحتمالات الثلاثة تبدو متداخلة العناصر ولا يمكن فرزها عندما يتعلق الأمر بتحديد السبب الأساسي لتأجيل القرار حتى نهاية الحوار..
إصلاح الخلل
اكتنف مسار الحوار تحديات كثيرة- لا يتسع المقام لذكرها كما هي مفصلة في الكتاب- لكن خلاصة ما ذهب إليه الدكتور ياسين سعيد نعمان في كتابه هو أن مسار الحوار تضرر في أكثر من محطة لذا كان التوقف نتيجة طبيعية حتى إصلاح الخلل وفي هذا السياق يرى نعمان أن إصلاح الخلل الذي أضر بجوهر فكرة الحوار يأتي في مقدمة استعادة روح التوافق التي حكمت العملية السياسية والحوار الوطني.. مؤكداٍ أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذه العملية التصحيحية وذلك بالعودة إلى وثيقة الضمانات التي أقرتها لجنة التوفيق بما اشتملت عليه من رؤى ومعالجات لقضية بناء الدولة الضامنة كحامل لمخرجات الحوار وكذا الوثيقة التي استخلصها المبعوث الأممي من نقاشات لجنة الستة عشر الخاصة بالقضية الجنوبية والتي اشتملت على بابين: الباب الأول شمل تحول اليمن إلى دولة اتحادية وتحدث بوضوح عن طرفين متكافئين في معادلة الدولة الاتحادية هما الشمال والجنوب وذلك بالاستناد إلى الحقائق السياسية والتاريخية التي انتظمت في إطارها عملية توحيد اليمن بين دولتين يوم 22 مايو 1990م. فالاتحاد لا يتم إلا بين كيانات سياسية في الأصل. وانطلاقاٍ من ذلك تحدثت الوثيقة عن علاقة مكونات الدولة بالسلطة والثروة في هذا الإطار المحدد سلفاٍ وهو أهم جزء في هذا الحوار الذي ظل دوماٍ مصدِر الحروب والصراعات والانقسامات. وبسبب التدخلات التي كانت قد شكلت ضغطاٍ على الحوار تركت الوثيقة في بابها الثاني موضوع التقسيم الإداري للأقاليم بخيارين [إقليمين: الشمال إقليم والجنوب إقليم أو ستة أقاليم: اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال] (…….)
التحديات الجمة والتعقيدات لم تقف في رأي نعمان حائلا دون استمرار الحوار والتشبث بأمل العبور رغم إثخان العبور ذاته بمشكلات محمولة على تعقيد الحاضر إلى المستقبل مؤكداٍ أن تلك التعقيدات- التي عِكِسِتú عِدِمú استيعاب بعض القوى للدرس بحذافيره اللازمة- وضعت الحوار الوطني أمام مهمة أكثر جسامة تتمثل في تهذيب قوى النفوذ والعصبيات ومعها السلطة بكل مكوناتها وأشكالها وأدواتها بقيم وأسس بناء الدولة العادلة التي كان مؤتمر الحوار قد أقر الكثير منها بشكل جعلنا جميعاٍ نشعر أن الفراغ الروحي والخواء المعنوي اللذين خلقهما الاستبداد والفساد في المجتمع قد مْلئ بروح الحوار وصموده الأسطوري أمام مراوغات التخلف..
متطرقاٍ للقضية الجنوبية في رؤى كثيرة- ربما تختلف كثيراٍ عن رؤى القوى السياسية التي أخذت على عاتقها مسؤولية اجتياز التحدي بقرار إداري ولدت على غراره وثيقة الضمانات- هذه الرؤى شخصت الأصل والأساس بأبعاده السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والمعيشية وكذا احتمالات مستقبل أثر القرارات الإدارية التي اتخذت لحسم جذور الخلاف حول القضية الجنوبية في خطوة تعكس مستوى الإرادة لمواصلة السير بالحوار إلى الأمام رغم التلكؤات وإن كان المستقبل في هذه الحالة هو مختبر الصواب من الخطأ.. مستعرضاٍ مكامن الخطر وجوهر الخلل الذي كان يعتري محطات الحوار ويسهم في إبطاء سيره إلى الأمام لزحزحة الركب اليماني باتجاه عبور المضيق.. وفي نفس الوقت شدد نعمان أن لا ملاذ آخر غير مواصلة الحوار وشد أحزمة القيم والتعايش والصفح السياسي الحقيقي والبدء بالسير نحو بناء دولة مدنية حامية للجميع..
الوفاق الوطني: لملمة اليمن المنهك
وينظر المفكر السياسي نعمان إلى القرار الأممي الذي جاء لدعم الوفاق -الذي أخذ على عاتقه مهمة لملمة اليمن المنهك بأنه لم يشكل انتصاراٍ لأحد إلا لهدف التغيير وهو بهذا يأتي متفقاٍ مع المطلب العام بمواجهة المعرقلين لعملية التغيير التي عبرت عنها مخرجات مؤتمر الحوار. هكذا يجب أن يْقرأ وأي قراءة تنصرف به إلى المكان الذي من شأنه أن يؤسس لمراكز نفوذ جديدة من أي نوع كان أو توظفه للانتقام أو لكسر إرادة الناس في التعبير عن آرائهم أو الاستقواء به في إحداث تغييرات سياسية أو بنيوية تخدم أطرافاٍ معينة لأسباب لا صلة لها بالهدف العام فإن ذلك لن يقرر أثره المستقبلي على مسار العملية السياسية بصورة سلبية فحسبº ولكن سيفتح بكل تأكيد طريقاٍ لمزيد من الصراعات والفوضى ولاستعادة القوى التقليدية المسلحة لأوراق اللعبة.
مؤكداٍ أن الوفاق الذي جنب اليمن مغبة السير في طريق الحروب والعنف وقدم الكثير من الأدلة على أنه قادر على جر اليمن بقاطرة السلام والتفاهم والتعايش والاعتراف بالآخر إلى المحطة التي تربطه بفكرة التحول إلى “وطن” والتي يجب عليه أن يؤسس عندها قواعد بناء الدولة الاتحادية الديمقراطية العادلة… موضحاٍ في نفس الوقت أن الوفاق عملية شاملة لا تقتصر على البعد السياسي في صيغته المعبرة عن توافقات أفقية بين القوى السياسية والاجتماعيةº بل هو في ظروف اليمن عملية رأسية ذات بعد وطني تستهدف بداية مكونات البنية الوطنية للدولة بحل القضايا الكبرى العالقة التي لا معنى للوفاق إلا بحلها وفي الصدارة القضية الجنوبية. وهو لا يعني بأي حال عدم الاختلافº بل ينصرف المعنى إلى إدارة الخلاف على قاعدة ضرورة الاتفاق بالحوار والتنازل المتبادل وعدم السماح لأدوات الصراع بأن تكون جزءاٍ من الحل.
وفيما يتعلق بشروط إصلاح مسار العملية السياسية أكد الدكتور ياسين سعيد نعمان ضرورة حاجة القوى التي تحاورت إلى التجرد من أنانية التفرد وروح الغلبة وأن تقف أمام هذه الأخطاء بمسؤولية قبل أن تترتب عليها نتائج على الأرض يصعب معالجتها بعد ذلك إلا بكلفة باهظة. وفي هذا الإطار يمكن أن يصبح القرار الأممي عنصراٍ مهما في هذه العملية التصحيحية.. معتبراٍ أي إجراء من شأنه تنفيذ هذا القرار بانتقائية سيفقده مصداقيته عند الشعب وسيبدو قراراٍ انتقامياٍ وسيجعل ممن يستهدف القرار بطلاٍ.. مؤكداٍ ضرورة أن تشارك كل الأطراف بجدية في إصلاح مسار الحوار وبالتحديد في التنازل عن سلطتها وثرواتها وأن تصبح جزءاٍ من التاريخ..
وتطرق نعمان في كتابه (عبور المضيق في نقد أولي للتجربة) إلى قضايا التنافر والتقارب في تفسيرات القوى السياسية المختلة والأطراف الشريكة في مسار إنجاح العملية السياسية تجاه ما ورد في القرار من عبارات احتملت مداخل إدراكية شكلت بحد ذاتها جدلاٍ بين كل القوى الموجودة على خارطة الحوار الوطني مقدماٍ تأصيلاٍ مفاهيمياٍ مطولاٍ لا يتسع المقام هنا لإيراده.. لكن الأهم في هذا المقام الإشارة إلى هذه المفاهيم حسب رؤى نعمان تعتبر رسائل بالغة الأهمية على كافة القوى السياسية أن تدركها جيداٍ من خلال التعاطي معها على أساس الحذر من تكرار أخطاء الماضي بصفة عامة..
وفي محور العملية السياسية والإقليم.. قدم نعمان رؤية تفصيلية لأهمية الدور الخليجي في وضع أساسات التسوية من خلال المبادرة الخليجية وما اكتنف مسيرة الوفاق عليها من تحديات وصعوبات وتعديلات وصولاٍ إلى التوقيع عليها وكذلك أثر دول مجلس التعاون الإيجابي في الدعم الدولي وقرارات مجلس الأمن كون دول مجلس التعاون هي صاحبة المبادرة.. مستعرضاٍ سلسلة من العوامل المؤثرة في مسار السياسة الدولية التي تحكم مصالح الدول الكبرى في المنطقة والظل المترتب على دراماتيكية الأحداث والتعاطي الدولي مع المستجد السياسي الأهم في تبعات هذه الأحداث.. مؤكداٍ أن المنطقة اليوم بما اختمر فيها من أحداث وإرهاصات لتغيرات كبيرة وربما جذرية تواجه سؤالاٍ متعلقاٍ بقدرتها على إدارة هذه الأحداث والتبدلات دون تدخلات قد تفضي بها إلى الفصل السابع. ربما كان الظرف الدولي سانحاٍ لاتخاذ قرار من هذا النوع بسهولة في حالة اليمن وذلك قبل أن تنفجر أزمة أوكرانيا في مارس 2014. ولو أن هذا القرار الخاص باليمن تأخر لأي سبب من الأسباب لأصبح اتخاذه مرهوناٍ بعوامل دولية إضافية قد تعقد من اتخاذه..
الهوية على خارطة العبور
الأهم في الخْلاصات الفكرية في كتاب عبور المضيق للمفكر السياسي الدكتور ياسين سعيد نعمان هو ما ذهب إليه حاسماٍ الجدل الذي وصل حد مساس الهوية اليمنية من خلال جعلها في مربع أسباب الصراع من قبل بعض الأطراف العصبية نافياٍ أن تكون الهوية اليمنية مثاراٍ للصراع أو مشكلة في المسار التاريخي وفي هذا السياق يقول نعمان: لم تكن الهوية إحدى مشاكل اليمن وخاصة منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر. وحتى في ظل التشطير كانت الهوية اليمنية الوطنية هي عنوان الارتباط المصيري المشترك والتي أخذ اليمنيون على عاتقهم رعايتها والحفاظ عليها سواء توحد اليمن أم لم يتوحد. كان المشروع الوطني في صورته التي عبرت عنه الثورتان قد حمل هذه الهوية بدرجة عالية من الحرص على جعلها أساساٍ لتحويل البلد إلى “وطن” وقاعدة لنهوض شامل لإدراكه أن تفكيك هذه الهوية سيرتب آثاراٍ ضارة على مستقبله واستقراره.
سالمين.. سقطرى.. و”الشيخ والبحر”
تحت هذا العنوان الذي يشع حباٍ وأدباٍ وارتباطاٍ بأمكنة ومعارف أدبية شكلت محطة من محطات تكوينه الوطني والمعرفي ضمن الدكتور ياسين سعيد نعمان الجزء الأول من كتابه ( عبور المضيق في نقد أولي للتجربة) قصة تروي جانباٍ من سيرةُ شكلِت محطة من حياة طويلة كان الحوار فيها هو مشروع العمر بالنسبة له خلال مشواره الطويل من العمل السياسي والجدال والنقد والحوار والاتفاق والاختلاف.
وخلص نعمان في مدخل أدبي بديع اللغة التي تعرف الحياة ظاهراٍ وجوهراٍ أمام من يعملون ويحثون الخطى على بلوغ الغايات أن الأوطان هي التي لا يجب أن تنتظر فرز الحياة للصح والخطأ بمؤشر مرور الزمنº فالفرصة التي تضيع تبدد دهراٍ بأكمله وتعرض أجيالا للضياع. والحياة بطبيعتها لا يمكن أن تسير في خط مستقيم للوصول إلى الهدف المنشود. في تفاعل تام مع مجرياتهاº يكون هناك الخطأ وهناك الصواب. وهما لا يتقرران على الورق وإنما في التطبيق على أرض الواقع… مؤكدا أن الحياة لا تعترف بالصيِغ الجامدة التي تدعي التعبير عما يجري فيها ما لم يثبت ذلك الفعل على الأرض.
وقال نعمان : ” إن الجنوب سيبعث من داخله من يحمل قضيته. وأن لا شيء يموت! وبلاد اليمن ستتحول إلى “وطن”. واليمن هو الهوية التي نعود إليها حاملين أثقال تاريخ فيه من التناقضات والصراعات ما يجعلنا ميالين دائماٍ إلى الغضب من كل شيء بحثاٍ عن لا شيء”.. مضيفاٍ ” شاركتْ في مؤتمر الحوار الأخير وعملتْ على نجاحه ودافعتْ عنه وسأظل أنتقد بقوة التشويه الذي تعرض له بما مورس في محطته الأخيرة من تكتيكات حملت روائح الماضي. وسأدعو إلى مقاومة كل محاولات تفريغ نتائجه من مضامينها الثورية والمدنية… “.
وقال الدكتور ياسين سعيد نعمان عن تجاربه في الحوار : الحوار هو مشروع عمري منذ أيام الشباب وفي بواكير الحياة السياسية في ثانوية خور مكسر بعدن في أوائل الستينيات حيث كنت لا أرى السياسة غير حوار لا يهدأ حتى في المحطات التي ينتصر فيها طرف وتهزم فيها أطراف أخرى وأنا أشاغب الرئيس سالمين رحمه الله وكان مسؤولاٍ عن منظمة التنظيم السياسي الجبهة القومية/ عدن وكنت عضواٍ فيها ورئيساٍ للدائرة الاقتصادية بعد تخرجي في جامعة القاهرة عام 1971. كان قائداٍ يدير التناقضات من حوله ولا يفرض قناعاته ــ ربما لجأ إلى ذلك في وقت متأخر عندما اشتد ضغط المشكلات. سألت في أحد الاجتماعات: لماذا لا يحاور تنظيم الجبهة القومية كل من اختلفوا مع النظام آنذاك¿! هب فوقي بعض أعضاء لجنة المحافظةº لكن سالمين قال بلهجته المحببة: “كلام بن نعمان صح بس يقول لنا مع من نتحاور بالضبط¿” وهي العبارة نفسها التي سمعتها من الصديق عبد الوهاب الآنسي بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة عندما ناقشت معه فكرة الحوار الشامل مع مختلف القوى السياسية قبل سنوات من قبول الفكرة بعد ذلك من كثيرين.
ويواصل نعمان : كان لي صديق من شبوة كثيراٍ ما حدثني ونحن طلبة في القاهرة عن أحداث كثيرة جرت وتجري يومذاك في شبوة أدت إلى نتائج اجتماعية شوهت مضامين الثورة على أكثر من صعيد حيث ترك الكثيرون ديارهم وغادروا. طلبت من سالمين أن يسمح لي بالذهاب إلى شبوة في اللحظة نفسها التي أكمل فيها عبارته السابقة عندما قال لي: “قدم لنا مقترحاٍ بمن نتحاور معهم”. استغرب طلبيº ولكنه لم يسألني: لماذا¿ فقد أدرك ماذا كانت تعنيه شبوة في ذلك الحين. وبعد أن وافق اتصلت بذلك الصديق الذي جاء من درب “آل بو طهيف” ـ درب الفلاحين حيث كان يزور والده المريض والتقينا في عتق وزرنا يشبم والصعيد وخورة العليا والسفلى ومرخة العليا والسفلى وحطيب والهجر ونصاب وجزءا من عرمة ومررنا على كور العوالق في رحلات يومية مضنية وزرنا بيحان وعسيلان ووصلنا إلى قريب البلق وعدنا إلى عزان وميفعة وعين والنقعة وبئر علي… سجلت وقائع كثيرة منها تلك الربوع المهجورة عن بكرة أبيها والمخيم عليها حالة من السكون والتي بدت كوشم أخذ الزمن يمحو ملامح خطوطه من على ظهر كف تغضن جلده بقسوة الحياة. سلمتها للرئيس سالمين وما زلت أحتفظ بنسخة منها إلى اليوم. وفيها قلت إن العودة إلى الحوار هو الوحيد الذي سيفتح طريقاٍ إلى قلوب لم يترك اليأس أمامها من سبيل سوى المقاومة. بعد أسبوع وأثناء اجتماع لجنة المحافظة قال سالمين مخاطباٍ أعضاء لجنة المحافظة فجأة: “بانرسلكم يا أعضاء لجنة المحافظة إلى سقطرى كل واحد يبقى لمدة شهرين هناك والجدول بايطلعكم عليه الأخ علي سالم لعور” وكان الأخير نائباٍ للرئيس سالمين في قيادة منظمة التنظيم في محافظة عدن. كنت على رأس القائمة وكان عليِ أن أغادر إلى سقطرى مع أول طائرة تطير إلى هناك أي بعد أسبوعين على الأقل. في الاجتماع الذي أعقب القرار سألت سالمين عما هو مطلوب مني أن أعمله في سقطرى قال: “شوف أحوال الناس واقرأ وفكر في الأشياء التي ما قدرتش تفكر فيها في الزحمة هناك هدوء”. لم أعتبر ذلك عقاباٍ مثلما اعتبره الآخرون فقد كان عندي يقين أن لسالمين هدفا آخرº ولكنني كنت في غاية الحنق بعد أن تملكتني حالة من الشكº ففي اللحظة التي سمعتْ فيها مبرر الذهاب ربطتْ بين القرار وإلحاحي على الحوار بعد زيارة شبوة. ومع ذلك كنت لا أرى إلا أن لسالمين هدفا آخر غير العقاب. وحتى عندما حاول الأخ علي سالم لعور -الشهيد بعد ذلك في أحداث 1978- أن يلتمس لي عذراٍ للتأجيل رفضت وأصررت على الذهاب في الموعد.
ويواصل سرده الشيق قائلاٍ: أمضيت في سقطرى شهرين بين الجبل والبحر. لم تكن سقطرى يومذاك مكاناٍ للتأملº إلا بمقدار ما تكون قادراٍ على أن تغمض عينيك وفؤادك عن معاناة الناس في تلك الفترة المبكرة. ومع ذلك قرأت كثيراٍ ومن أهم ما قرأت رواية “الشيخ والبحر” لأرنست همنجوايº فالصياد العجوز يصطاد بقاربه العتيق الصغير سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه وإن استطاع بمعجزة ما فلن يتسع لها القارب وقرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ. في الطريق إلى الشاطئ هاجمت أسماك القرش سمكته. قاومها بقوة وعناد شديدين.. قاوم وظل يقاوم حتى وصل إلى الشاطئ ولم يكن قد بقي من سمكته غير هيكل عظمي.
واختتم قصته بالقول : بعد أن عدتْ من سقطرى بأيام عرفت أن جدول زيارات سقطرى لمن تبقى من الأعضاء قد أْجل إلى أجل غير مسمى. وفي لقاء مع سالمين سألني باقتضاب عن سقطرى فقلت له: المهم ألا تصل إلى الشاطئ بهيكل عظمي. وأعطيته الرواية وكان يقرأ كثيراٍ.
تقنية الرسائل القيمية
وأخيراٍ.. وأنا أنتظر كثيراٍ من القراء للجزء الثاني من كتاب “عبور المضيق في نقد أولي للتجربة” للدكتور ياسين سعيد نعمان القامة الفكرية والسياسية اليمنية العريقة أود الإشارة إلى أجمل ما لفت انتباهي في هذه القراءة هو أن نعمان استطاع أنسنة المشهد اليمني إذ لم يكن قاسياٍ في عرض الأحداث المتخمة بالرعب والتنافر والصراع السياسي رغم كون مقام الحديث يستوجب ذلك كما استطاع توظيف اللغة السردية الأدبية في ما تشكل من مخيـال للقارئ والعميقة في دلالاتها واليسيرة في مفاهيمها فعكست روائياٍ فارع البيان وسارداٍ من الطراز المتقدم.. وهو ما مكنه من الإفصاح المباشر والضمني برسائل بليغة لكل اليمنيين الذين يتفقون ويختلفون معه من ذوي المستوى المعرفي والتوجه والإيديولوجيا حتى القصة التي اختتم بها الجزء الأول من كتابه (عبور المضيق ) انطوت على الرسالة الأصل في راهن اليمن وكما لو أن تلك القصة حدثت في الماضي لتناسب الحاضر.. حيث قال الدكتور ياسين سعيد نعمان في ختام تلك القصة: “لم يعد لدينا خيار سوى أن نعبر المضيق ونصل إلى الشاطئ إلى حيث ينتظرنا “وطن” مؤجلº ولكن علينا أن نحسب حساب ألا نصل إليه بهيكل عظمي”..