
قصة كفاح مشترك تقاطرت دماؤه من ردفان الى شواهق المحابشة
رسالتا تهديد بين السلطات ولبوزة تشعلان الفتيل
مخاوف لندن من تقارب الشطرين ألجأها لفكرة الجنوب العربي
فوجئت صنعاء بأفواج المتطوعين من لحج وأبين وشبوة والضالع ويافع وحالمين والأزارق والشعيب والصبيحة..
* في زمن الكرامة العربيةº زمن الغضب النبيلº وعصر الزعامة القومية الملهمةº وْلدت في اليمن ملحمة صمودُ أسطوريº وثورة عــز من نورُ ونارº أوقد جذوتها إعصار قوميةُ عربية اجتاحت حينها الوطن الأكبر من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر- في زمن ناصر- هبت رياحها على بلدُ بأكملهº غارق في الشقاء والتشظي لتشعل في شماله ثورة خالدة عام 1962م وأخرى مجيدة في جنوبه عام 63 انطلقت رصاصتها الأولى من جبال ردفان العصية فترددت أصداؤها في أرجاء وطن مشطر º التحمت جبهات نضاله جنوباٍ بشمالº ومضت في مسيرة كفاح مشترك مرغ أنوف المستعمرين وقض مضاجع الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولم تهدأ ثائرته حتى أرغم آخر جندي أجنبي على أن يحمل عصاه ويلعق جراحهº ويرحل بلا رجعة نهاية عام67 فكانت أروع درس في قاموس حرية الشعوبº وملاحم انتزاع السيادة…. إنها ثورة14 اكتوبر.. قصة شعب أراد السيادة فاستجاب القدر وسيرة كفاح وحدوي طويل أمكنه بشراكة الدم والمصير أن يحقق مكاسب عديدة: أن يحمي ثورتينº ويسترد سيادة وطنية مستلِبةº وينهي أزمنة الوصاية الأجنبيةº بل ويرد الاعتبار والأمل لكرامةُ عربية جريحة تكالب عليها تحالف استعماري ضارب في مصر العروبةº ذات نكسةُ حزيرانية حزينة.
من أين تبدأ الحكاية¿¿ يبدو الحديث متشعباٍ عن بدايات ثورة كهذه..
فمن السهل معرفة بداية الاستعمار لعدن عام 1839م تكرر ذكرها مرارا.. لكن من الصعب جدا تحديد البداية الحقيقية للثورة الشعبية عليه فقد تعددت الإرهاصات المبكرةº بتعدد الشخوص والكياناتº المناطق والجبـهات وتنوعت المقاومة بكل الأشكالº عسكرية ومجتمعية عمالية ونقابية قبلية ونخبوية وتجارية جنوبية وشماليةº داخلية وخارجية.. ربما وردت في بعض المصادر محاولات مبكرة وعمليات متفرقة رافضة للمستعمر لكنها لم تكن منتظمة ضمن سياق جمعي وبيئة ثورية حاضنة..
وحتى لا نتوه في تفاصيل الإرهاصات وبواكير النضال ورواياته المتشعبة وتعدد شخوصه وجبهاتهº سنبدأ من أهم الظروف والعوامل التي هيأت البداية الفعلية لانفجار الثورة الاكتوبرية ومن أهم شخصية ارتبط اسمه بالشرارة الأولى التي فجرت الجنوب وأرخ يومْ استشهاده تاريخِ الثورة واسمِها
فلولا ثلاثية(انفجار الثورة السبتمبرية شمالاٍ والدعم المباشر لمصر عبدالناصر وتمرد راجح لبوزة في ردفان) لما تفجرت ثورة ثانية جنوباٍ.. والرابط بين هذه الثلاثية هو الحفاوة البالغة لأبناء الجنوب بالثورة الأم في صنعاء ثم النضال المشترك في خنادق الدفاع عن ثورة سبتمبر انطلاقاٍ من جبال المحابشة (حِجة) بقيادة الشيخ راجح لبوزةº والمقدم احمد الكبسي قائد لواء إب والبطل القومي عبد المنعم رياض- قائد المحور المصري هناك.
خلايا ردفان
مثلما يعد اسم علي عبدالمغني ايقونة الثورة السبتمبرية كان الشهيد لبوزة الايقونة الموازية لعبدالمغني بالنسبة لثورة اكتوبر فقد بدأ مبكراٍ بتشكيل خلايا سرية من أبناء ردفان لمقارعة المستعمر وإن كانت جماعات غير منظمة إلا أنها شكلت بداية الانتفاضات وكان بداية عملها المسلح عام 1942م ضد ثكنة عسكرية لجيش شبره التابع للقوات البريطانية في منطقة ردفان في جبل الحمراء الحبيلين فقاد لبوزة أول مجموعة تهاجمها بالأسلحة الشخصية وتم القضاء على هذا المركز نهائياٍ.
وفي عام 1956م اتجه شمالا إلى السخنة- في الحْديدة- ومعه مجموعة من أبناء ردفان حصلوا على سلاح «زاكي كرام» الماني قيل ان الإمام أحمد زودهم بها.. ثم عادوا إلى ردفان فكان لهم لقاء في منزل القطيبي- شيخ قبيلة «آل قطيب» في قرية الثمير الحبيلين وعندما وصل الخبر إلى الضابط السياسي البريطاني أمر بقصف المنزل بالطائرات «هوكر هنتر» فما كان من الثوار إلا أن قاوموا تلك الطائرات حتى تم إسقاط طائرتين مهاجمتين في العام 1957م.
كان الواضح أن نار الغضب والاستقلال تختمر تحت الرماد لذا كانت بريطانيا تلجأ لعقد معاهدات صداقة مع سلاطين القبائل المحيطة بعدن لضمان ولائهم وضم محمياتهم إليها لحمايتها من التقارب مع شمال البلاد وكانت تدعم من تبدو فيه بوادر تعاون معها وترصد النزاعات بين السلاطين دون تدخل مباشر.. كل ذلك لكبح تأجج المشاعر الوطنية وفصل عدن عن الموجة القومية العربية التي اجتاحت المنطقة وابقاء نفوذها وقدرتها على إدارة عدن من لندن فأقاموا عام 1959ماعْرف بإتحاد إمارات الجنوب العربي الذي فشل مشروعه ثم أقاموا إتحاد الجنوب العربي لطمس الهوية اليمنية وفشل هو الاخر لأنه بحلول 1965 كانت أربع مشيخات فقط قد إنضمت للإتحاد من أصل 21 سلطنة.. كانت تدرك أن ثمة تحولات جديدة تعتمل في المنطقة قد تقلب الموازين ضدها.
ففي خمسينيات القرن الماضي تأثر أهالي المستعمرة بخطابات جمال عبد الناصر وطموحاته الوحدوية والأغاني الثورية عبر إذاعة القاهرة التي أججت الشعور القومي والإحساس بالكرامة و كان لسياسات الإنجليز التعسفية و المتجاهلة لمطالب أبناء جنوب الوطن دور رئيس في تنامي تلك المشاعر باعتراف الانجليز ذاتهم.
بالتزامن مع هذا المد القومي كان شمال البلاد قد بدأ يتململ ضد حكم الإمامة وهرباٍ من الكبت والعزلة والانغلاق والسخط كان العديد من النخب الشمالية ورموز التحرر يلجأون إلى عدن بحثاٍ عن انفتاحها وحداثتها.. وكان لوجود هيئات مجتمع مدني في عدن أثر كبير على المطالبين بإسقاط الإمامة شمالا, فتزايدت أعداد النازحين الى الجنوب ما أثار قلقاٍ لدى المستعمر البريطاني فاختلق فكرة إقامة ما عرف باتحاد (الجنوب العربي) وهو اتحاد فيدرالي يجمع 15 سلطنة منتشرة في أرجاء المستعمرة لتخفيف حدة المطالب الداعية للاستقلال الكامل والوحدة اليمنية.
تذكر العديد من المصادر أن عدن شهدت قرابة 30 إضراباٍ عمالياٍ في مارس 1956 وفي يونيو من العام نفسه قام الثوار في بيحان محافظة شبوة بالهجوم على المركز الحكومي
وفي خريف عام 1956م أثارت الأحداث- التي شهدتها مصر إثر العدوان الثلاثي على مصر من قبل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا- غضب الشعب اليمني فازدادت وتيرة العمل الوطني ضد التواجد البريطاني في مستعمرة عدن والمحميات الشرقية (السلطنة الكثيرية والقعيطية والمهريه والغربية) فعمل المستعمرون على زيادة التوغل في المناطق الريفية لاسيما المحاذية لأراضي المملكة المتوكلية في الشمال..
ثم شهدت المحميات الغربية في فبراير 1957م أكثر من خمسين حادثة معظمها إطلاق نار على المراكز البريطانية والمسؤولين المحليين في كلُ من ردفان وحالمين والضالع وفي 24 فبراير 1957م نصب (16) رجلاٍ من قبيلة الأزارق كميناٍ لدورية عسكرية بريطانية تتكون من 22 فرداٍ من أفراد قوات (الكاميرون مايلاندر) أسفر عن مقتل اثنين من الدورية وإصابة ستة بجروح. وفي أغسطس أو سبتمبر من العام نفسه بدأت انتفاضة قبيلة الشعار في إمارة الضالع فتضامن معهم أبناء القبائل الأخرى وعند مرور القوات العسكرية الخارجة من عدن عبر لحج لقمع تلك الانتفاضة وزعت منشورات في لحج تدعو أفراد جيش الليوى والحرس الحكومي إلى الثورة والهروب من الخدمة العسكرية وتم رمي تلك القوات أثناء مرورها بلحج بالحجارة كما انتفضت قبائل بيحان ودثينة وقامت القوات البريطانية باعتقال العديد منهم وصادرت الممتلكات.
وفي عام 1958م رفض سلطان لحج علي عبد الكريم الانضمام إلى اتحاد الإمارات للجنوب العربي فأرسلت بريطانيا 4000 جندي تدعمهم الأسلحة الثقيلة واحتلت السلطنة تحت مبرر اكتشاف مخازن للأسلحة والذخائر.. وإثر ذلك نزح جزء من قوات سلطان لحج إلى تعز.. بلغ عددهم 45 ضابطاٍ و300 جندي.
وفي 22 أبريل 1958م قامت قبائل الشاعري والدكام والحميدي والأحمدي والأزرقي والمحاربة وجحافة وبني سعيد وحالمين وردفان باحتلال مركز السرير في جبل جحاف بقصد السيطرة عليه أما في يافع السفلى فقد نشب خلاف بين السلطان محمد عيدروس والبريطانيين على أسعار القطن الذي كانت تتحكم به السلطات البريطانية فعملت بريطانيا على عزل السلطان محمد عيدروس الذي قاوم الإجراءات البريطانية فاستمرت العمليات القتالية بين السلطان عيدروس وقوات الاحتلال البريطاني من فبراير 1958م إلى أبريل 1961م واستخدمت القيادة العسكرية البريطانية كل وسائل التدمير ضد قوات السلطان بما فيها الطيران الذي دمر تدميراٍ كاملاٍ معقل السلطان محمد عيدروس في قلعة (القارة) الحصينة في يافع وعلى إثرها نزح السلطان عيدروس إلى تعز.
وفي 19يوليو 1958م اندلعت اتنفاضة قبائل سيسان والمناهيل في حضرموت كما قامت قبائل الربيزي في العوالق في مارس 1959م بإجبار القوات البريطانية على الانسحاب من المراكز العسكرية التي أقاموها في العوالق فقامت القوات البريطانية بقصف مناطق تلك القبائل بواسطة الطيران ما أدى إلى استشهاد عدد من الثوار وأحرقت المزارع وأبيدت المواشي وتشردت الأسر ولجأ الثوار إلى الجبال لمواصلة المقاومة.
خلال الفترة من 1956 – 1958م شهدت الانتفاضة (الثورة) في المحميات الغربية والشرقية اطراداٍ في الكم والكيف نتيجة للمد الثوري العربي الذي خلفته الثورة العربية في مصرِ منذ قيامها في عام 1952م وتنامى الوعي الوطني بأهمية النضال ضد المستعمر واستفادت المقاومة الشعبية من الدعم الشمالي المحدود الذي قدمه لها الإمام أحمد قبل الثورة السبتمبريةº لكنه تراجع عنه بعد أن شعر بخطورة تنامي الوعي الوطني في الشمال والجنوب على حدُ سواء ضد حكمه والحكم البريطاني فتوصل إلى حلول مع البريطانيين قام على إثرها بقطع كافة أشكال الدعم والمساندة على رجال المقاومة الشعبية فكان نتاج ذلك زيادة الهجمة العسكرية البريطانية ضد القبائل الثائرة التي لم تجد معظمها- وخاصة القيادات- من وسيلة سوى اللجوء إلى المناطق الشماليةº أو الهجرة إلى دول عربية كالكويت والسعودية وغيرها.
مثلما كان اللاجئون لعدن من الشمال يتخذونها منطلقاٍ لثورة سبتمبر كان القيادات الجنوبية اللاجئة إلى شمال البلاد قبل قيام سبتمبر تتخذ من الشمال قاعدة لانطلاقتها النضالية ضد المستعمر إذ تكوِنت في عام 1957جبهة أسميت (العاصفة العدنية) بقيادة محمد عبده نعمان الحكيمي الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة وكانت تذيع برنامجاٍ إذاعياٍ من إذاعة صنعاء باسم (صوت الجنوب) لكن الإمام رفض أي نشاط لهم في صنعاء فعملت مجموعة من المناضلين على تكوين تجمع جديد لهم في منطقة البيضاء الحدودية برئاسة محمد عبده نعمان الحكيمي ومقبل باعزب وباشتراك عدد من رؤساء القبائل وأسسوا هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل وحصلوا على بعض الأسلحة من مصرِ عام 1960م لكن الإمام لم يسمح بخروج هذه الأسلحة من ميناء الحديدة.
سبتمبر.. نقطة التحول
وعند إعلان قيام الثورة الأم صبيحة الخميس 26سبتمبر 1962م عبرت الجماهير اليمنية عن فرحتها بهذا الحدث العظيم في كل منطقة دون استثناء وخرجت في شوارع عدن تردد الأناشيد الثورية تأييداٍ للثورة الملهمة وهنا تفجرت الطاقات الشعبية ونشطت اجتماعات القوى الوطنية وفي مقدمتها الحركة العمالية والأحزاب السياسية وبدأت طلائع المتطوعين تتجه نحو عاصمة الثورة صنعاء للدفاع عنها منذ الأسبوع الأول لقيام الثورة بقيادة لبوزةº وخاصة من المستعمرة عدن التي كانت الجماهير فيها أكثر وعياٍ وتنظيماٍ لتتقاطر بعدها أفواج المتطوعين من لحج وأبين وشبوة والضالع ويافع وحالمين والأزارق والشعيب والصبيحة.. وغيرها.
صلح قبائل ردفان
ثمة محطة مهمة عززت نجاح فكرة التطوع الجنوبي فعقب انتصار ثورة سبتمبر عقد الشهيد لبوزة صلحاٍ بين قبائل ردفان المتقاتلة ليتمكنوا من الذهاب معاٍ إلى شمال البلاد للدفاع عن الثورة الأمل انطلق لبوزة من مسقط رأسه من وادي دبسان حتى وصل منطقة «ذي ردم» حيث توجد قبيلتا الداعري والمحلاتي المتقاتلين وعقد صلحاٍ بينهما لمدة عام وهناك كان يتواجد سيف مقبل عبدالله وأبناؤه فانطلقوا معاٍ إلى قعطبة مع مجموعة كبيرة من أبناء ردفان مكونة من «150» شخصاٍ وتم ترحيلهم إلى إب ثم إلى الحديدة وهناك سلمت لهم أسلحة شخصية وذخيرة.. ومن الحديدة انطلق لبوزة إلى منطقتي عبس والمحابشة حجة برفقة قائد لواء إب- المقدم أحمد الكبسي- وكان في استقبالهم قائد القوات المصرية المرابطة هناك وفي كل محطة يصلها كان للبوزة ورجاله دور مشهود في مطاردة فلول الملكية ومساندة الثوار.
أفواج المتطوعين
عقب وصول أفواج المتطوعين من مناطق الجنوب إلى تعز عملت القيادة العسكرية العربية المشتركةº اليمنية والمصريةº على توزيع المجاميع الأولى من المتطوعين الجنوبيين في ثلاث جبهات رئيسية كالتالي:
– جبهة خولان: مكوِنة من (90) مقاتلاٍ معظمهم من منتسبي المؤسسات العسكرية والأمنية الجنوبية الذين هربوا من وحداتهم للدفاع عن سبتمبر مع العناصر النازحة للشمال قبل الثورة وقد عين قائداٍ لها الرائد محمد أحمد الدقم (من الصبيحة)º وكان من قياداتها علي عبدالله السلال.
– جبهة الحيمتين: تكونت من (100) متطوع معظمهم من العمال والطلاب والمدرسين الذين جاءوا من مستعمرة عدن وقد عين قائداٍ لها الأستاذ محمد عبده نعمان الحكيمي.
– جبهة المحابشة- لواء حجة: ضمت أكثر من (120) مقاتلاٍ معظمهم من قبائل ردفان بقيادة راجح لبوزة وأحمد الكبسي.
لكن فيما بعدº لم تعد هذه الجبهات وحدها تضم متطوعي الجنوب فقد تزايد عددهم وتم إعادة توزيعهم على معظم جبهات القتال ضد الملكية وتم إلحاقهم بصفوف الجيش والحرس الوطني وبعضهم تم إلحاقهم بالكلية الحربية وتخرجوا قيادات مؤهلة في جبهات القتال أمثال: ثابت عبده حسين وعبدالله علي الضالعي وأحمد مهدي المنتصر وغيرهم.
إذن فقد تمركزت مجموعة لبوزة في المحابشة- بمنطقتي الوعلية والمفتاح الخاليتين من السكان لا تتواجد فيهما سوى القوات المصرية بقيادة عبدالمنعم رياض والكبسي برفقة لبوزة ومجموعته من أبناء ردفان وفي مقابلهم مجاميع من القبائل المتمردة على الثورة كانت تحاصر أبناء ردفان والقوات المصرية فتقدم لبوزة بمجموعة تتجاوز خمسين مقاتلاٍ استشهد بعضهم في المعركة لكنه تمكن من فك الحصار .. حينها سارع الكبسي إلى التواصل مع قيادة الثورة في العاصمة يطالبها بنقل مجموعة لبوزة إلى صنعاء للالتقاء بالقيادة والتشاور حول قرار عودتهم إلى ردفان بأسلحتهم الشخصية لمقاومة الاستعمار وتفجير أول ثورة منظمة ضد الاحتلال البريطاني.. فتم لقاؤه بقيادة الثورة كان اللقاء يضم المشير عبدالله السلال- أول رئيس جمهورية- وقحطان الشعبي ومحمد علي الصماتي وثابت علي وعبدالحميد بن ناجي وغيرهم وخرج اللقاء بقرار عودة مجموعة لبوزة إلى ردفان لتنفيذ المهمة إلا أنه لم يحدد ساعة الصفر لانطلاق الثورة, وترك الأمر للمجموعة لتحديد المكان والزمان المناسبين.
تأسيس الجبهة القومية
ثمة أحداث متزامنة حدثت بين صنعاء وعدن.. ففي 24 فبراير 1963م عْقد في دار السعادة بصنعاء مؤتمر (القوى الوطنية اليمنية) حضره أكثر من 1000 شخصية سياسية واجتماعية ومستقلة إلى جانب عدد من الضباط الأحرار وقادة من فرع حركة القوميين العرب. وقد توصل المجتمعون خلال أعمال المؤتمر إلى اتفاق لتوحيد جميع القوى الوطنية اليمنية في إطار جبهة موحدة, وجرى في المؤتمر استحداث مكتب تكون مهمته وضع مشروع ميثاق مؤقت للتنظيم الجاري تشكيله وذلك على هيئة نداء إلى جميع القوى التي تؤمن بوحدة الحركة الوطنية اليمنية في النضال لحماية النظام الجمهوري والدفاع عن ثورة سبتمبر الخالدة وتحرير الجنوب اليمني من الاحتلال الأجنبي حيث استقر الرأي على تسمية هذه الجبهة باسم “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” أخذت في أغسطس من نفس العام تسميتها النهائية (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل) على أساس الاعتراف بالثورة المسلحة أسلوباٍ وحيداٍ وفعالاٍ لطرد المستعمر, وقد تمخض عن هذا المؤتمر تشكيل لجنة تحضيرية من الشخصيات والقيادات المشاركة فيه كان على رأسها قحطان محمد الشعبي وبعد اجتماعات عدة عقدتها اللجنة التحضيرية وأقرت في 8 مارس 1963م نص الميثاق القومي يتصدره شعار الجبهة «من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية». و نشرت في مايو 1963م الوثيقة الموضحة للخط السياسي لهذا التنظيم.
وفي 19 أغسطس 1963م تم إعلان تأسيس (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل) وتم تشكيل قيادة الجبهة من 12شخصاٍ, تكونت الجبهة من خلال اندماج سبعة تنظيمات سرية أعلنت إيمانها بالكفاح المسلح وهي: حركة القوميين العرب الجبهة الناصرية في الجنوب المحتل المنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل الجبهة الوطنية التشكيل السري للضباط والجنود والأحرار وجبهة الإصلاح اليافعية (تشكيل القبائل) ثم التحقت ثلاثة تنظيمات أخرى بالجبهة القومية وهي: منظمة الطلائع الثورية بعدن منظمة شباب المهرة والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل.
وفي أغسطس 63 كان أبناء ردفان يستقبلون الثوار العائدين من شمال البلاد بقيادة لبوزة بعد مشاركتهم في الدفاع عن ثورة سبتمبر طيلة أكثر من ستة أشهر . عادت المجموعة إلى ردفان لتستقبلها الجماهير في كل المناطق التي مرت بها.
فكرة تفجير الثورة
عند مغادرة مجموعة لبوزة من صنعاء كان طريق عودتهم (صنعاء- إب- قعطبة- الضالع- حالمين- ردفان) وأثناء مرورهم بمدينة إب التقى لبوزة بقائد اللواء أحمد بن أحمد الكبسي كانت تربطه بـلبوزة عِلاقات وثيقة منذ جمعتهما معارك جبهة المحابشة طلب الكبسي من لبوزة دراسة الأجواء في ردفان للقيام بثورة مؤكداٍ استعداده لدعمها فور الإعداد لها وتنظيم الجماهير في ردفان لتصبح الظروف مهيأة من كل الجوانب رغم أن الأوضاع في الشمال لازالت غير مستقرة.. ونتيجة لعدم وجود السلاح في ردفان اقترح الكبسي على لبوزة تجهيز مجاميع جديدة وذلك للمشاركة في الدفاع عن ثورة سبتمبر من جهةº وتدريبها وتسليحها وإعادتها إلى ردفان كقوةُ مدربة على القتال.
القانون الذي فجر الوضع
فيما كانت مجاميع المتطوعين تقاتل مع لبوزة في شمال البلاد وتتأهب للعودة إلى ردفانº أصدرت بريطانيا قانوناٍ تعسفياٍ في عدن نِص على تحريم ذهاب أبناء الجنوب للدفاع عن ثورة سبتمبر وإلزام كل العائدين من الشمال بتسليم أسلحتهم وما لديهم من ذخائر وقنابل ودفع ضمانة قدرها خمسمائة شلن (درهم) على كل فرد بهدف إخضاع هذه المجموعات.
لكنها في لقائها الأخير بصنعاء كانت القيادات الشمالية والجنوبية قد ناقشت معها أسلوب الرد على هذا القانون فكان رد أبناء ردفان بأنهم لن يسلموا أسلحتهم بل عازمون على مواجهة السلطات في حال تطبيق القانون عليهم سبق ذلك أن أعلن تشكيل قبائل الجنوب عزمه على تفجير الثورة المسلحة ضد المستعمر في بيان 5يونيو 1963م.
وبالفعل حين عادت بعض المجاميع إلى مناطقها قدم بعضها للسلطات المحلية ضمانات بعدم العودة للشمال.. غير أن مجموعة لبوزة كان لها رد فعل مغاير وتصرف آخر كان كافياٍ لتفجير الوضع وإشعال فتيل اكتوبر..
بحسب شهادة المناضل الراحل ناصر علوي السقاف نائب قحطان الشعبي: “عاد راجح لبوزة من جبهات الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر ومعه 100 مقاتل وكان قد سمع بقانون حكومة الاتحاد الجنوبي- الذي بمنع العودة للشمال- وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين أعلن أنه سيعود وسيقاوم القانون إذا تطلب الأمر ذلك.. وحين عاد الرجال إلى ردفان طالبوهم بتسليم السلاح فرفضواº ونشب القتال”.. فكيف تم ذلك¿¿
نص الرسالة البريطانية
عندما سمع الضابط السياسي البريطاني (ميلن) الموجود في الحبيلين بعودة لبوزة ومجموعته إلى ردفان مع أسلحتهمº وامتلاكهم لقنابل يدويةº أرسل رسالة تهديد يطلب منهم تسليم أنفسهم وأسلحتهم وعدم عودتهم للشمال بضمانة قدرها خمسمائة شلن آنذاك على كل فرد. ووقع الرسالة باسمه وباسم نائب المشيخة في ردفان (محمود حسن لخرم) جاء فيها:
– (إلى حضرة الشيخ راجح غالب لبوزة- ورفاقه العائدين من الجمهورية العربية اليمنية
السلام عليكم وبعد.. لقد تلقينا نبأ وصولكم من الجمهورية العربية اليمنية إلى وطنكم الجنوب بين أهلكم في ردفان وأنتم تحملون الأسلحة والقنابل وعليه فإنه يتوجب عليكم الحضور إلى عاصمة ردفان (الحبيلين) ومقابلة الضابط البريطاني المسؤول السياسي البريطاني والنائب محمود حسن علي للتفاهم معكم وبحوزتكم الأسلحة والقنابل مع خمسمائة شلن (درهم) ضمانة بعدم عودتكم إلى اليمن وأن حكومتكم حكومة اتحاد الجنوب العربي سوف تضمن بقاءكم ما لم فإنكم سوف تنالون العقاب الشديد من حكومة بريطانيا وحكومتكم حكومة اتحاد الجنوب العربي). والسلام عليكم
-المستر ميلن- الضابط السياسي البريطاني المرابط في الحبيلين
-النائب محمد حسن علي- نائب مشيخة القطيبي- 16 / 9 / 1963م
رد لبوزة
بعد استلام لبوزة للإنذار دعا رفاقه ومواطنيه إلى اجتماع في قرية تتوسط قرى ردفان وأطلعهم على محتوى الإنذار وطلب منهم رأيهم في الرد على بريطانيا فكان رد الجميع بعدم الاستسلام. وتم تشكيل لجنة من أربعة أشخاص لكتابة الرد على بريطانيا. ولأن لبوزة لا يجيد القراءة والكتابة فقد كتب الرد أكثر من أربع مرات من قبل شخص آخر – جاء فيه:
– (إلى حضرة الضابط السياسي البريطاني المرابط في الحبيلين والنائب محمود حسن علي- نائب مشيخة القطيبي:
لقد استلمنا رسالتكم الموجهة إلينا بخصوص عودتنا من الجمهورية العربية اليمنية التي تضمنت تسليم أسلحتنا وكل ما بحوزتنا من قنابل وغرامة خمسمائة شلن وضمانة بعدم عودتنا إلى اليمن وتسليم ذلك إلى حكومتنا حكومة الاتحاد.
نحن نعتبر حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية وليس حكومة الاتحاد ونحن غير مستعدين لكل ما في رسالتكم ونعتبر حدودنا من الجبهة وما فوق وأي تحرك لكم من تجاوز حدودنا فنحن مستعدون لمواجهتكم بكل إمكاناتنا ولا تلوموا إلا أنفسكم والسلام ختام.
الشيخ راجح بن غالب لبوزة- عن مجموعة العائدين إلى ردفان من الجمهورية العربية اليمنية- 28 / 9 / 1963م
الانفجار
– تروي بعض المصادر أن لبوزة قبل أن يْغلق مظروف الرسالة أخرج طلقة رصاص (عيلمان) من حزامه ووضعها داخل المظروف إذ كلفت المجموعة قاسم شائف بإيصال الرسالة إلى الضابط السياسي البريطاني «ميلن» فقال قاسم شائف للشهيد لبوزة ماذا أقول لهم¿ فأخرج لبوزة من حزامه طلقة رصاص (نوع زاكي كرام- عيلمان) وقال: (قل لهم لا يوجد معنا إلا من هذا العيار).. فكان ذلك تحدياٍ صارخاٍ.. وثارت ثائرة الإنجليز.. كانوا يملكون إمكانيات كبيرة للرد مدفعية وطائرات وأسلحة ثقيلة متطورة.. فيما المناضلون لم يكونوا يملكون سوى أسلحتهم الشخصية وثلاث قنابل كان قد زودهم بها الشهيد أحمد الكبسي حين عودتهم إلى ردفان.. لتندلع معركة غير متكافئة بالمطلق.
فعشية انطلاق الثورة (يوم 13 أكتوبر) تحركت القوات البريطانية في وادي المصراح واخترقوا الوادي واعتقلوا أحد زملاء لبوزة (أحمد مقبل عبدالله) بعد مهاجمته أخذوا سلاحه وصادروه واحتجزوه فتناقل المواطنون الخبر حتى وصل إلى لبوزة فأمر الجميع بتجهيز أنفسهم للمواجهة والتحرك باتجاه وادي «ضرعة» ومنطقة حيد ردفان لإشعار الناس في تلك المناطق بما يجري على أن يكون اللقاء في رأس جبل «البدوي» في المساء وكان غرض لبوزة من جمع المقاتلين في رأس جبل البدوي الإعداد للقيام بهجوم على مركز القوات البريطانية في منطقة الحبيلين رداٍ على اعتقالها لأحمد مقبل.
وفي منتصف الليل تجمع الثوار في حدود70 رجلاٍ أمرهم لبوزة بالتفرق على شكل مجاميع صغيرة حتى إذا جاء الصباح بدأت مجاميع أخرى تنظم إلى المجاميع الأولى فقام لبوزة بإعداد خطة لتقسيم الثوار إلى أربع مجموعات..
-المجموعة الأولى كانت بقيادة ابنه (بِالليل راجح لبوزة) ومهمتها النزول من رأس جبل البدوي والتمركز في القمة على يمين قرية البيضاء بحيث تكون المواجه الأول للعدو أثناء عبوره لوادي المصراح.
-المجموعة الثانية فكانت بقيادة محسن مثنى حسين ومهمتها التمركز في أسفل الجبل خلف المجموعة الأولى لحمايتها.
-المجموعة الثالثة كانت الأكبر بقيادة راجح لبوزة مهمتها السير إلى غرب الجبل لتطويق العدو وعدم السماح بانسحابه.
– المجموعة الرابعة بمثابة قوة احتياطية لحراسة المجموعتين الأولى والثانية من ناحيةº ولاستقبال الوافدين من الثوار.
– بعد أن تحركت القوات البريطانية باشرتها المجموعة الأولى- بقيادة (بالليل لبوزة)- بإطلاق النار على مقدمة القوات وتصدت لها بقوة ولم يسمح لها بالانتشار أو بالتقدم فيما أسندتها المجموعة الثالثة بإطلاق النار على مؤخرة القوات واستطاع لبوزة ورفاقه منع تقدمها بكل مالديها من الدبابات والمدافع والطائرات وأجبروها على التراجع.
يشير كتاب (حقائق جديدة عن الانطلاقة الأولى لثورة 14 أكتوبر- لمحمد عباس الضالعي) إلى أن القوات البريطانية لم تستطع التقدم متراٍ واحداٍ أمام ضراوة القتال والاستبسال اللذين أبداهما المرابطون في ردفان فلجأ المهاجمون إلى القصف المدفعي المكثف وكان التركيز على المجموعة الثالثة التي يقودها الشهيد لبوزة في أكمة «الضاجع» وكان قد تقدم على مجموعته برفقة (سعيد حسين العنبوب) عندما رأى مقدمة القوات تراجعت للوراء وفي الساعة الحادية عشرة ظهراٍ أصيب موقع لبوزة بخمس طلقات مدفعية ثقيلة فأصابته منها شظية في الجانب الأيمن تحت الإبط اخترقت جسده حتى الجانب الأيسر على موقع القلبº فيما كان قابضاٍ على سلاحه يطلق النار على مؤخرة القوات.. حينها دوىِ خبر استشهاد لبوزة فكان أول شهيد في معركة الكرامة وكان عمره «46» سنة.. ودْفن جثمانه في اليوم الثاني بقرية الذنب- منطقة «عقيبة» بحضور حشد جماهيري كبير وقفوا على قبر الشهيد ليتعاهدوا بصوت واحد على مواصلة الكفاح.
بيان الاحتلال
وبعد مرور ثلاثة أيام من استشهاد لبوزة – 17 أكتوبر 1963م- أصدرت وزارة الإرشاد القومي والإعلام في حكومة اتحاد الجنوب العربي بياناٍ تشويهيا بالحادثة عبر إذاعة عدن جاء فيه:
– :أن فرقة مؤلفة من الجيش والحرس الاتحادي تعرضت لنيران فريقين ممن أسمتهم (رجال عصابات كانوا يطلقون النار من مراكز تقع في الجانب الجبلي ويتألف الفريقان من ثمانية وثلاثين رجلاٍ على التوالي وكان هؤلاء بقيادة قائد رجل العصابات الرجعي المفسد من جبل ردفان راجح غالب لبوزة الذي عاد مؤخراٍ من اليمن يحمل أسلحة وقنابل يدوية وألغاماٍ يحاول إشاعة الإرهاب في المنطقة ولم يصمد أتباع اللص لبوزة أمام القوات الاتحادية المدربة تدريباٍ عالياٍ التي أرغمتهم على الفرار رغم تحصينات رجال العصابات في مراكزهم وقد خسر رجال العصابات اثنين منهم كان أحدهما راجح لبوزة نفسه بينما أْصيب أربعة آخرون ولم تـْصب القوات الاتحادية بأي خسائر”.
قالت ذلك في حين لم يستشهد سوى لبوزة واصيب شخص واحد فقط هو رفيقه سعيد العنبوب الذي كان يْقاتل إلى جانبه كما لم تعترف بخسائرها لكن شهود عيان من أبناء المنطقة شاهدوا بأم أعينهم بعد انتهاء المعركة في الساعة الثانية بعد ظهر يوم 14 أكتوبر 1963م الدماء النازفة في موقع تمركز القوات البريطانية.
وبعد ستة أيام على بث البيان البريطاني من إذاعة عدن ومرور تسعة أيام على استشهاد لبوزة أصدرت قيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل في 23 اكتوبر 1963م بياناٍ أعلنت فيه عن استشهاد لبوزة وانطلاق الثورة من ردفان واعتبرت الشهيد لبوزة أول شهيد في ثورة 14 أكتوبر. مؤكدةٍ عزمها على مواصلة مسيرة الكفاح المسلح التي بدأها لبوزة ورفاقه وتوعدت القوات البريطانية بزيادة وتيرة القتال حتى تحرير الوطن المحتل واعتبرت لبوزة قائداٍ من قادتها المتفردين بالشجاعة والرجولة والقدرة القيادية.. وقد عملت الجبهة على توزيع بيانها لوسائل الإعلام وفي مقدمتها إذاعة صنعاء التي أذاعت البيان في26 اكتوبر 1963م.
تشتيت قوات المستعمر
وباستشهاد لبوزة دخلت الثورة الاكتوبرية مرحلة جديدة من النضال ضد المحتل الغاصب, فبعد أيام من مقتله تفجرت المعارك من جديد بين القوات البريطانية وجبهة ردفان وألحقت بالقوات البريطانية خسائر فادحة مما حدا بالقوات البريطانية إلى استخدام مختلف أسلحتها البرية والجوية في قصف مناطق ردفان دون تمييز وشنت حملات عسكرية غاشمة استمرت ستة أشهر واتبعت سياسة “الأرض المحروقة” ضربت خلالها القرى والسكان الآمنين وقتلت عشرات النساء والأطفال في هذا القصف وتشرد آلاف المدنيين العزل.. وخلفت كارثة إنسانية فظيعة جعلت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني يدين تلك الأعمال اللا إنسانية.
وبعد أن عجزت قواتها المتمركزة في العند والضالع وعدن عن إخماد بركان ردفان استقدمت فرقة عسكرية متكاملة من القوات الخاصة المتمركزة في جنوب أفريقيا يطلق عليها (فرقة الشياطين الحمر) وهي فرقة متخصصة بالمناطق الجبلية والمسالك الوعرة.. حينها توسع نطاق الثورة لتشتيت قوة الاحتلال حيث تم فتح جبهة الضالع والشعيب ودثينة والصبيحة وغيرها من الجهات لتشمل الثورة كل أرجاء الجنوب. وشاركت الفعاليات الطلابية والنسائية والنقابية في مسيرة النضال من خلال المظاهرات والإضراب والكفاح المسلح.
جبهة عدن
بعد أن تشعبت المواجهات مع القوات البريطانية في المناطق الريفية وامتدادها إلى 12جبهة أعلنت الجبهة القومية عن فتح جبهة عدن ونقل النضال إليها, حيث أصبح للعمليات التفجيرية وطلقات الرصاص وبسالة المقاومة صدى إعلامي عالمي يصعب على الاستعمار البريطاني إخفاؤه عن أعين المجتمع الدولي الذي كان يراقب عن كثب ويرسل الوفود والوسطاء لتقييم الوضع واحتواء الصراع بعد أن ظل الانجليز يصرون على المكابرة وقلب الحقائق في المحافل الدولية.
المؤكد أن نقل العمل العسكري إلى عدن “شكل انعطافاٍ استراتيجياٍ لتنظيم الجبهة القومية ومنجز الثورةº محلياٍ وعربياٍ ودولياٍ فالعمل المسلح وسط عدن كان عامل إرباك للقوات الأجنبية, أمكنه تخفيف الضغط على الجبهات الريفية المقاتلة وتشتيت قوات الاحتلال الأمر الذي ساعد على مد الجبهة القومية لنشاطها النضالي إلى مختلف مناطق الجنوب”. وتطورت أساليب النضال المسلح ليشهد صوراٍ مختلفة كان أكثرها تأثيراٍ العمليات الفدائية, حيث شهدت عدن أهم وأخطر الأعمال الفدائية كالعملية التي اشترك فيها (30) شخصاٍ لضرب الإذاعة البريطانية في التواهي وحادثة مطار عدن.. وظهرت عمليات فدائية جديدة, حيث كان منفذ العملية هو الذي يحدد الهدف بنفسه دون الرجوع للقيادة المركزية أثبتت هذه العمليات نجاعتها, فقد عملت على بث الرعب في نفوس الجنود البريطانيبن خصوصاٍ بعد مقتل رئيس المخابرات البريطانية بعدن “هيري ييري” ورئيس المجلس التشريعي “آرثر تشارلس”.
توالي العمليات الفدائية
ففي 10 ديسمبر 63 نفذ خليفة عبد الله حسن خليفة عملية فدائية بتفجير قنبلة في مطار عدن في إطار الكفاح ضد الاحتلال البريطاني أسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني (تريفاسكس) بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن.. كما أصيب أيضاٍ بإصابات مختلفة 35 من المسؤولين البريطانيين وبعض وزراء حكومة الاتحاد الذين كانوا يهمون بصعود الطائرة للتوجه إلى لندن لحضور المؤتمر الدستوري الذي أرادت بريطانيا من خلاله الوصول مع حكومة الاتحاد إلى اتفاق يضمن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لها في عدن, وكانت هذه العملية الفدائية التي أعاقت هذا المؤتمر هي البداية التي نقلت الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني من الريف إلى المدينة.
وفي 11 ديسمبر 1963م صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قضى بحل مشكلة الجنوب اليمني المحتل وحقه في تقرير مصيره والتحرر من الحكم الاستعماري البريطاني.
وفي 7 فبراير 1964 بدأت أول معركة للثوار استخدموا فيها المدفع الرشاش في قصف مقر الضابط البريطاني في ردفان (لحج) وفي 3 أبريل 1964م شنت ثماني طائرات حربية بريطانية هجوماٍ عدوانياٍ على قلعة حريب في محاولة للضغط على الجمهورية العربية اليمنية لإيقاف الهجمات الفدائية التي يشنها فدائيو الجبهة القومية من أراضيها.
وفي 28 أبريل 1964م شن مجموعة من فدائيي حرب التحرير هجوماٍ على القاعدة البريطانية في الحبيلين (ردفان) وقامت طائرات بريطانية في 14 مايو 1964م بغارات ضد الثوار في قرى وسهول ردفان أدت إلى تدمير المنازل في المنطقة كما أسقطت منشورات تحذيرية للثوار الذين أسمتهم بـ «الذئاب الحمر» وفي 22 مايو 1964 أصاب ثوار الجبهة القومية في ردفان طائرتين بريطانيتين من نوع”هنتر” النفاثة.
ثم في 24 يوليو 64 انطلق الكفاح المسلح في إمارة الضالع بقيادة علي عنتر عقب عودة عدد من الشباب من تعز خضعوا فيها لدورة تدريبية عسكرية دامت شهرين لينضموا إلى صفوف العائدين من شمال الوطن بعد مشاركتهم في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر في صفوف الحرس الوطني. وقد تلقى الثوار كل الدعم من إخوانهم في الشمال فعاد قادتهم من تعز ومعهم السلاح والذخائر والقنابل اليدوية.
اشتدت العمليات الفدائية على قوات الاستعمار فأصدرت قانون الطوارىء في 19 يونيو 1965م حظرت بموجبه نشاط الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل واعتبرتها حركة إرهابية وقامت بإبعاد 245 مواطناٍ من شمال اليمن.
وفي22 يونيو 1965م عقدت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل مؤتمرها الأول في تعز وأعلنت فيه موقفها الثابت لمواصلة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني حتى جلائه عن أرض الوطن. واعتبرت نفسها الممثل الوحيد لأبناء الجنوب اليمني المحتل. وأقرت في هذا المؤتمر لائحتها الداخلية والميثاق الوطني.
في 30 يوليو 1965م هاجمت فرقة ثورية بقيادة علي عنتر سِرية بريطانية كانت قد تمركزت بنفس اليوم حول دار أمير الضالع لحمايته من هجمات الثوار وأصيب خلالها القائد الميداني علي شائع هادي بثلاث طلقات رصاص..
كان الواضح أن الصراع الاقليمي على ثورة اليمن شمالاٍ قد بلغ ذروته بين مصر عبدالناصر وآل سعود ما أدى لعقد مؤتمر مصالحة شهير في جدة.. لكن في 25 أغسطس 1965م رفضت الجبهة القومية نتائج مؤتمر جدة بين الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة والملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية ونعتته بـ”مؤتمر الخيانة” ورفضت أي حلول أو تسوية مع الملكيين باعتبار ذلك تهديدا للنظام الجمهوري وإضعافاٍ للثورة في الجنوب.
وفي عام 1965م اعترفت الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب الجنوب طبقاٍ لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأعلنت بريطانيا في 2 أكتوبر نفس العام عزمها البقاء في عدن حتى عام 1968م ما أدى لانتفاضة شعبية عارمة ضد البريطانيين في المدينة اسفرت عن خسائر كبيرة بشرية ومادية.
العودة للشمال
في 5 ابريل 1966م شكلت الجبهة القومية لجنة لجمع التبرعات من المناطق الشمالية استهلت اللجنة عملها من لواء إب حيث بادر المسؤولون والمشايخ والمواطنون بالتبرع بالمال والحبوب بأنواعها وأسهموا بنقلها إلى قعطبة.
وفي 22 ابريل 1966م أسقط ثوار جيش التحرير طائرة بريطانية أثناء قيامها بعملية استطلاعية لمواقع الثوار في الضالع والشعيب فأرسلت السلطات الاستعمارية للغاية نفسها طائرة أخرى فكان مصيرها كسابقتها ما جعل القوة الاستعمارية وأعوانها تشدد من قصفها للقرى وتنكل بالمواطنين فيها.
في 28 يوليو 1966م نفذ فدائيون في حضرموت عملية قتل الكولونيل البريطاني جراي قائد جيش البادية. وهو الضابط الذي نفذ عملية اغتيال المناضلة الفلسطينية رجاء أبو عماشة عند محاولتها رفع العلم الفلسطيني مكان العلم البريطاني أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين.
وبعدها أعلنت الحكومة البريطانية في أغسطس 1966م اعترافها بقرارات منظمة الأمم المتحدة لعامي 1963 و1965م الذي أكدت فيه حق شعب الجنوب اليمني المحتل في تقرير مصيره.
في 31 ديسمبر 1966م قام ثوار جيش التحرير بهجوم مباغت على القاعدة البريطانية في الضالع أدى إلى مقتل ثلاثة جنود وإصابة ثمانية آخرين وتدمير ثلاث سيارات «لاند روفر» وإحراق عدد من الخيام بما فيها من مؤن ومعدات.. في غضون ذلك وحد ثوار الضالع وردفان والشعيب هجماتهم على القوات الاستعمارية وأعوانها من خلال تشكيل فرقة قتالية مشتركة أسموها «الفرقة المتجولة» بقيادة علي شايع هادي.
وفي 5 أكتوبر 1966م قدم ثوار الشمال الدعم الشعبي والعسكري الكبير لإخوانهم في الجنوب وذلك بدءاٍ من الضالع وحتى وصولهم إلى عدن ما ألحق الضرر الأكبر في صفوف المحتل والهزيمة الساحقة في نفوس قواته.
مظاهرات وإضرابات
في 15 فبراير 1967م خرجت جماهير غفيرة في عدن في مظاهرات حاشدة معادية للاستعمار البريطاني وهي تحمل جنازة رمزية للشهيد مهيوب علي غالب (عبود) الذي استشهد أثناء معركة ضد القوات الاستعمارية في مدينة الشيخ عثمان.
في 8 مارس 1967م أصدرت الجامعة العربية قراراٍ تشجب فيه التواجد البريطاني في جنوب اليمن.
في 2 ابريل 1967م حدث إضراب عام شل كافة أجهزة العمل في مدينة عدن دعت إليه الجبهة القومية و جبهة التحرير.
في 3 ابريل 1967م نفذ فدائيو حرب التحرير عدة عمليات عسكرية ناجحة ضد مواقع وتجمعات المستعمر البريطاني في مدينة الشيخ عثمان بعدن كبدوا خلالها القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وسقط خلالها عدد من الشهداء في صفوف الفدائيين.
20 يونيو 1967م تمكن الفدائيون من السيطرة على مدينة كريتر لمدة أسبوعين.
وفي 21 يونيو 1967م سيطر ثوار الجبهة القومية في إمارة الضالع على عاصمتها ومعهم آلاف المواطنين الذين دخلوها في مسيرة حافلة يتقدمهم علي احمد ناصر عنتر.
تبع ذلك سيطرة الجبهة القومية على مشيخة المفلحي في 12 أغسطس 1967م بعد أن زحفت عليها بمظاهرة كبيرة شارك فيها أبناء القرى والمناطق المحيطة بالمشيخة وتوالى بعد ذلك سقوط السلطنات والمشيخات بيد الجبهة.
ي 28 سبتمبر 1967م تأسست إذاعة المكلا التي انطلقت باسم “صوت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”. و في 5 نوفمبر 1967م أعلنت قيادة الجيش الاتحادي في جنوب الوطن المحتل وقوفها إلى جانب الثورة ودعمها للجبهة القومية بعد أن باتت غالبية المناطق تحت سيطرتها.
ختامها استقلال
وتتويجاٍ لهذه التضحيات الباهظة أذعنت العظمة البريطانية بكل هيلمانها لإرادة الشعب وحقه في السيادة الكاملة.. ففي 14 نوفمبر أعلن وزير الخارجية البريطاني (جورج براون) استعداد بريطانيا لمنح الاستقلال لجنوب الوطن اليمني في 30 نوفمبر 1967م وليس في 9 يناير 1968م كما كان مخططاٍ له سابقاٍ. وبدأت المفاوضات في 21 نوفمبر بجنيف بين وفد الجبهة القومية ووفد الحكومة البريطانية جرى في ختامها توقيع اتفاقية الاستقلال بين وفد الجبهة القومية برئاسة قحطان الشعبي ووفد المملكة المتحدة (بريطانيا) برئاسة اللورد شاكلتون.. و بدأ انسحاب القوات البريطانية من عدن في 26 نوفمبر 1967 وغادر الحاكم البريطاني هامفري تريفليان.. وفي 30 نوفمبر 1967م تم جلاء آخر جندي بريطاني عن مدينة عدن وإعلان الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بعد احتلال بريطاني دام 129 عاماٍ وأصبحت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل إبان حرب التحرير تتولى مسؤولية الحكم وتولى أمين عام الجبهة قحطان الشعبي رئاسة الجمهورية وشكلت أول حكومة برئاسته. قبل أن يختلف رفاق النضال ويفترق الشطران لتبدأ دوامة متاعب لم تتوقف..
اتحاد الجنوب العربي
كان اتحادٍا شكلياٍ أقيم تحت الحماية البريطانية في 4 أبريل 1962م مكون من 18 ولاية وهي :
1- مستعمرة عدن
2- مشيخة القطيبي
3- مشيخة العقربي
4- سلطنة العوذلي
5- إمارة بيحان
6- مشيخة دثينة
7- إمارة الضالع
8- سلطنة الفضلي
9- سلطنة الحواشب
10- سلطنة العبدلي
11- سلطنة العوالق العليا
12- سلطنة العوالق السفلى
13- مشيخة العوالق العليا
14- سلطنة يافع السفلى
15- سلطنة يافع العليا
16- سلطنة الصبيحي
17- مشيخة العلوي
18- مشيخة الشعيب
– وألغي الإتحاد عندما نال الاستقلال وأصبح في 30 نوفمبر 1967م ضمن جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية .
محمية الجنوب العربي
تم انشاؤها في 18 يناير 1963م كانت عبارة عن مجموعة من الإمارات والمشائخ والسلطنات تحت الحماية البريطانية بموجب معاهدات شملت الكيانات التالية من حضرموت والتي كانت ضمن محمية عدن الشرقية وهي:
– السلطنة الكثيرية
– سلطنة المهرة
-السلطنة القعيطية
– ولاية الواحدي في بير علي
– سلطنة يافع العليا والتي كانت ضمن محمية عدن الغربي .
تم حل محمية الجنوب العربي بعد استقلال جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967م حيث انهارات الكيانات المكونة لهذه المحمية مع حكامها وتم اعلان جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية .
سلطنة المهرة
سلطنة المهرة في قشن وسقطرى وهي سلطنة شملت تاريخياٍ منطقة المهرة (تقع ألان في شرق اليمن) إضافةٍ إلى جزيرة سقطرى في المحيط الهندي. كان يحكمها سلالة بنو عفرار. في عام 1886م أصبحت السلطنة محمية بريطانية ثم أصبحت فيما بعد جزءاٍ من محمية عدن. في الستينات من القرن الماضي رفضت الانضمام إلى اتحاد الجنوب العربي ولكنها بقيت تحت الحماية البريطانية كجزء من محمية الجنوب العربي. في عام 1967م تم إلغاء السلطنة وأصبحت المهرة جزءاٍ من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية .
جيش الجنوب
في الشطر الجنوبي من اليمن لم يتقرر إنشاء أول تشكيل عسكري نظامي في ظل الاحتلال البريطاني إلا عام 1918م أي بعد مضي 79 عاماٍ على الاحتلالº تم إنشاء جيش محلي تحت مسمى “الكتيبة اليمنية الأولى” إلى جانب قوات الاحتلال البريطانية تم تعيين الكولونيل البريطاني نيل ليك قائداٍ للكتيبة اليمنية الأولى وتكونت من أربعمائة جندي وصف ضابط وضابط ينتمون إلى جنوب اليمن وشماله. وبلغ عدد الضباط اليمنيون 13 ونسبة الجنود الشماليين إلى الجنوبيين 4:1 منذ إنشائها وحتى تسريحها من الخدمة عام 1925م وذلك عقب قيام جنود جزيرة ميون من الكتيبة بقتل اللفتنانت لورانس عام 1923م حين علموا بالنوايا العدوانية الاستعمارية ضد الدولة اليمنية حديثة التكوين في الشطر الشمالي “المملكة المتوكلية اليمنية” وغادر الجنود اليمنيون الجزيرة عقب عملية الاغتيال إلى منطقة الشيخ سعيد في باب المندب ومنها إلى شمال اليمن الأمر الذي جعل البريطانيين يعيدون حساباتهم في ما يتعلق بإخلاص الجنود اليمنيين لسلطات الاحتلال .
قامت السلطات البريطانية عام 1928م بإنشاء عدد من القوات النظامية المحلية في أكثر من منطقة وهي:
-جيش محمية عدن ” جيش الليوي”.
-البوليس المسلح في مستعمرة عدن “Aram police”.
-الحرس القبلي”T.g”.
-الحرس الحكومي”G.G”.
-الجيش النظامي اللحجي.
-جيش المكلا النظامي.
-جيش البادية الحضرمي.
-بعض التشكيلات العسكرية الصغيرة في المحميات الشرقية.
-دورية بريطانية في الطرق الواصل بين المنصورة والشيخ عثمان في عدن عام 1966م
عدن , الشيخ عثمان 1967م.
ترتب على قيام ما سمي يومها باتحاد إمارات الجنوب العربي” في فبراير 1959 أن تحول اسم جيش محمية عدن “الليوي” إلى “جيش الاتحاد النظامي” ومن ثم إلى “جيش الجنوب العربي”. وبناءاٍ على ما تعهدت به بريطانيا تشكلت للجيش الاتحادي قيادته اليمنية وكوادره من الضباط والصف. وفي عام1962 صدر قانون تعريب قيادة الجيش الاتحادي من الجماعة وحتى الكتيبة فقط مع وجود المستشارين العسكريين البريطانيين بالطبع. وتحولت تبعية ذلك الجيش شكلياٍ إلى وزارة الدفاع في حكومة الاتحاد مع أن الواقع كان يقول يومها بأنه وقيادته تابعون حقيقةٍ لوزارة الدفاع البريطانية من خلال ممثلها المباشر الحاكم العام في عدن. كما أن ميزانيته قد ظلت حتى عام 1964م تصرف من وزارة الدفاع في لندن وحتى حين تحولت الميزانية إلى حكومة الاتحاد فإن مصدرها كان الحكومة البريطانية. وقد ارتفع عدد الضباط اليمنيين بناءاٍ على ذلك إلى “149” ضابطاٍ مقابل “77” ضابطا بريطانيا كخطوة على طريق إحلال الضباط اليمنيين الجنوبيين كليةٍ محل الإنجليز بناء على ما تضمنه القانون الجديد وذلك في أمد أقصاه عام1967م. وقد أوصى المجلس الأعلى للاتحاد في مذكرة بتاريخ 15 مارس 1965 بمنع التحاق أبناء شمال اليمن بجيش الجنوب العربي وتجميد أوضاع بعض من سبق لهم الانتساب إليه والإحالة على التقاعد للبعض الآخر وعدم ترقية من يبقى في الجيش. وقد وصلت الميزانية العسكرية في العام المالي 1964 – 1965م إلى أربعة ملايين دينار وتم تزويد كتائب جيش الاتحاد النظامي في وقت لاحق ببعض المضادات الجوية أما أسلحة التدعيم فكانت تؤمنها القوات البريطانية.
قبيل موعد الاستقلال قررت الحكومة البريطاني بحسب توصية لجنة فينر إنشاء قوات جديدة ضمن قوام الجيش أهمها سلاحا الطيران والبحرية والمدفعية وقد تعاقدت وزارة الدفاع في حكومة الجنوب العربي مع شركة -أيروك سرفيس لميتد- في لندن بتاريخ 27 سبتمبر 1967 على تزويد جيش الجنوب العربي بعدد من الطائرات الحربية. وفي 28 مارس 1967م قرر المجلس الأعلى للاتحاد دمج “الحرس الاتحادي الأول” بـ “جيش الاتحاد النظامي” ليتشكل منهما ما عرف بـ “جيش الجنوب العربي” فيما جرى دمج الحرس الاتحادي الثاني بقوى الأمن ليتكون منهما “الشرطة الاتحادية” ابتداء من 1 يونيو 1967م. وتضمن القرار أن تكون التسميات الرسمية الجديدة بالنسبة للقوات المسلحة على النحو الآتي (جيش الجنوب العربي – سلاح طيران الجنوب العربي – بحرية الجنوب العربي).
غير ان المواقف الوطنية للجيش والقوى الأمنية الجنوبية برزت في أكثر من موقف اهمها انحياز جيش الليوي إلى جانب الجماهير الغاضبة في عدن في الصراع الذي حدث بين المواطنين اليمنيين واليهود عام 1947م أي قبيل قيام الكيان الصهيوني في فلسطين بعام واحد حينما بدأت خيوط المؤامرة الصهيونية العالمية تتضح, فقد زج المستعمرون البريطانيون بجيش الليوي ليقوم بفض الاشتباكات بعد فشل قوات الأمن ولكن جنود وضباط الجيش انحازوا للشعب حينما تلقوا الأوامر بإطلاق النار على المواطنين اليمنيين ووجهوا بنادقهم صوب المستعمرين.
ثم كان للجيش ذلك الموقف المشرف حين احتل الثوار مدينة عدن لمدة أربعة عشر يوما (20 يونيو -4 يوليو 1967) عقب تمرد قوات الشرطة في معسكر البوليس المسلح ابان الاستقلال حيث ظهر انحياز منتسبيه إلى جانب الثورة والفدائيين فامتد التمرد إلى ثلاثة معسكرات أخرى هي: معسكر ليك (لاحقاٍ معسكر الشهيد عبد القوي) معسكر شامبيون (لاحقاٍ معسكر النصر) و”معسكر الشعب” في مدينة الاتحاد. الأمر الذي اضطر سلطات الاحتلال إلى جلب المزيد من القوات البريطانية لاقتحام المدينة ولكنها فشلت رغم تكرار المحاولة ولم تتمكن من دخولها إلا بعد أن أخلاها الفدائيون في 4 يوليو 1967م ليتوج الجيش مواقفه بعد ذلك بانحيازه الكامل والعلني لقيادة ثورة 14 أكتوبر المسلحة ويحسم الصراع على السلطة الذي كان دمويا بين مناضلي الجبهتين: الجبهة القومية للتحرير وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ثم تحقيق الهدف الأسمى وهو انتزاع الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م .
ورث النظام الماركسي مؤسسة جيش محترف أشرفت على إعداده وتدريبه جيدا السلطة الاستعمارية البريطانية التي حكمت الجنوب حتى نجاح ثورة 14 أكتوبرعام1967م . ورغم ذلك نجح الماركسيون في إحكام السيطرة على الجيش خاصة بعد إبعاد كبار الضباط القدامى والعناصر غير الموالية وتمكنوا من بناء جيش قوي بمساعدة الاتحاد السوفيتي السابق حتى صار أقوى جيش في المنطقة وتمكن من تحقيق انتصارات في المعارك الحدودية التي جرت بين دولتي اليمن عام 1972م وفي حرب 1979م اليمنية.
لكن هذا الجيش أصابته لعنة الخلافات داخل الحزب الحاكم في عدن وتنافس قياداته على السلطة فعرف انشقاقات خطيرة بدأت عام 1978م بالانقلاب على الرئيس السابق سالم ربيع علي وتكررت بعد أشهر قليلة من النجاحات العسكرية التي حققها في الحرب الحدودية مع الشمال عام 1979م حتى حدث الانفجار الكبير داخل الحزب الحاكم في عدن عام 1986م وأصاب الجيش نفسه الذي انقسم بين المتقاتلين ونزح الآلاف من كوادره إلى الشمال وساندوا جيش الوحدة ضد رفاقهم السابقين عام 1994م في الحرب على الانفصاليين. وفي طليعة هؤلاء برزت مجموعة من ألمع الضباط مثل رئيس الجمهورية المشير عبد ربه منصور هادي الذي أصبح وزير الدفاع آنذاك ورئيس الأركان السابق اللواء عبدالله عليوة واللواء سالم قطن الذي اغتاله مسلح قاعدي.
كان تفكك وانهيار جيش الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن حتميا مع هزيمته في حرب 1994م المعروفة باسم حرب الدفاع عن الوحدة فقد نزح كثيرون إلى خارج اليمن وترك آخرون الخدمة أو أحيلوا للتقاعد وتم إدماج البقية في الجيش المنتصر. ومن صفوف أولئك العسكريين المسرحين والمتقاعدين والمنقطعين ظهرت عام 2007م جماعات الحراك الجنوبي احتجاجا على سوء أوضاعهم المعيشية رافعين شعار القضية الجنوبية
اهداف ومبادئ ثورة 14 أكتوبر
1. تصفية القواعد وجلاء القوات البريطانية من أرض الجنوب دون قيد أو شرط.
2. إسقاط الحكم السلاطيني الرجعي المتخلف.
3. إعادة توحيد الكيانات العربية الجنوبية سيراٍ نحو الوحدة العربية والاسلامية على أسس شعبية وسلمية.
4. استكمال التحرر الوطني بالتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية.
5. إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور.
6. بناء اقتصاد وطني قائم على العدالة الاجتماعية يحقق للشعب السيطرة على مصادر ثرواته.
7. توفير فرص التعليم والعمل لكل المواطنين دون استثناء.
8. إعادة الحقوق الطبيعية للمرأة ومساواتها بالرجل في قيمتها ومسئولياتها الاجتماعية.
9. بناء جيش وطني شعبي قوي بمتطلباته الحديثة تمكنه من الحماية الكاملة لمكاسب الثورة واهدافها.
10. انتهاج سياسية الحياد الايجابي وعدم الانحياز بعيدا عن السياسات والصراعات الدولية.
لقطة من معارك التلاحم
عن اجمل ما سطره التلاحم الجنوبي الشمالي من مواقف مؤثرةº يروي المناضل علي عبدالله السلال- نجل الزعيم السلال- في احدى شهاداته قائلا:
– ” احب ان احكي عن المعارك العسكرية التي خضتها مع أبناء المحافظات الجنوبية متطوعين ومنضمين إلى الحرس الوطني ومن سقطوا في هذه المعارك والبطولات النادرة والملاحم البطولية التي خاضوها مع قوات الثورة وما كانوا يتمتعون به من عفة ونزاهة وإباء وشجاعة حيث ظل معظمهم ولمدة ثمانية أشهر دون مرتبات وعندما جاءت المرتبات وأردنا أن نسلمهم استحقاقاتهم رفضوا وطلبوا من عشرين ريالاٍ فقط مصاريف للعودة على ان يحتفظوا بسلاحهم الذي وزعناه عليهم فثارت بيننا وبينهم مشكلة لأول مرة كادت تعصف بالتلاحم الأخوي وزمالة السلاح ورفقة النضال الذي تقاسمناه في المحور الشرقي بخولان والذي كان مقر قيادته في قرية تنعم.
فبعد مضي ستة أشهر وبعد أن طال غياب إخواننا من المحافظات الجنوبية والشرقية عن أهاليهم طلبت الرائد محمد الدقم وقادة سريتي أبين ويافع الناجية من الموت والذين كثر عددهم بعد عودة الجرحى من صنعاء لمواصلة القتال وأبلغتهم بأننا سنعطيهم إجازة لزيارة الأهل والأحباب في البلاد على ان يقوموا بتجنيد مجموعة أخرى تصلنا خلال شهر لسد النقص والعجز في قواتنا فاعترضوا في البداية لكنهم ابتهجوا عندما قلت لهم انها فرصة لزيارة الأهل وتفقد الأسرة وأمرت بصرف مرتباتهم وفوجئت برفضهم استلام مرتباتهم ورغبتهم في الاحتفاظ بسلاحهم ومصروف طريق فقط يوصلهم إلى قراهم فأجبت بأننا لانستطيع أن نعطيكم السلاح لأنه عهدة على قيادة المحور وعند عودتكم سنعيده إليكم مرة أخرى وسأكتب لكم هذا التعهد مني ومن قيادة المحور زملائي ونوقع جميعاٍ فرفضوا وأصروا على الاحتفاظ بسلاحهم مع الذخيرة بل إنهم طالبوا بمضاعفة الذخيرة بدلاٍ من المرتبات وظللنا نتحاور حتى تطور الحوار إلى شبه نشوب قتال بيننا واتخذ كل منا مترسه وخندقه فجاء نائبي الملازم علي علاية أحد ضباط الثورة من خلية وقال لي: نحن هنا مطوقون بالأعداء من كل جهة ولا يحتمل أي خلاف في صفوفنا سينتهز العدو فرصة خلافاتنا وتقاتلنا ببعضنا فينقلب علينا جميعاٍ مما يضعف صفوفنا ويحد من وقتنا ويهدر ما نملكه من سلاح وعتاد اعددناه للعدو لضرب بعضنا البعض ونحن صف جمهوري واحد وإخواننا جاءوا للقتال معنا ومعاونتنا والمسألة تحتاج للتعقل وإمعان التفكير وبإمكانك أن تعود لوالدك وللقيادة في اجتماعك الأسبوعي بهم وتعرض عليهم المشكلة والورطة التي وقعنا فيها وطلب المخرج الذي يجنبنا المصاعب ولايطور القضية مع إخواننا إلى حد الاصطدام .. رأيت أن رأي نائبي صواب وفيه مخرج لنا من محنتنا فعدت لإخواننا قادة وضباط وأفراد سريتي يافع وابين وسألتهم: هل تقبلون رأي المشير السلال القائد الأعلى وتوجيهاته في هذه القضية فأجابوا جميعاٍ نعم.. فانتهزت فرصة قرب الاجتماع الأسبوعي الذي يصادف الخميس من كل أسبوع وتحركت إلى صنعاء منتهزاٍ فرصة يوم الأربعاء لزيارة أسرتي وأولادي ووالدي واطلاعه على الموقف العسكري برمته وطرح موضوع قضية السلاح العهدة على المحور والذي يريد إخواننا من أبناء المحافظات الجنوبية الاحتفاظ به.
وجدته مرهقاٍ ومجهداٍ ومهموماٍ فحدثت نفسي بالعدول عن طرح الموضوع عليه لكن بعد ان استقبلني بابتسامة عريضة محيياٍ موقف القوات التي أصبحت مسيطرة على قيادة المحور وطالباٍ نقل تحياته وتهانيه لكل فرد وضابط ومقاتل..
وحكيت له قصة إصرار إخواننا المقاتلين من أبناء المحافظات الجنوبية على احتفاظهم بالسلاح والعودة به الى الجزء الغالي المحتل من الجنوب ورفضهم لمرتباتهم وإنما يريدون مجرد مصروف يعيدهم الى قراهم فضحك ضحكة عالية كما هي عادته وخشيت أن يحول الموضوع الى نكتة كما كان يواجه كل المشاكل لكنه اجابني: “يامغفل احمد الله أنهم سيأخذون السلاح معهم لأنهم سيذهبون به ليحاربوا الانجليز وأنا أتمنى ادخال اسلحة لبقية إخوانهم حتى يتمكنوا من تفجير ثورة ثانية ضد المستعمر كما فعلنا في شمال الوطن دعهم يأخذوا الأسلحة واصرف لهم مرتباتهم كاملة وإياك أن تتعذر بالعهدة فأنا مستعد لإخلاء عهدتك بأمر الى قصر السلاح وأكلفهم ان يصرفوا لك الكمية التي نقصت من عهدتك حتى تسلح بها القادمين اليك من ردفان وحالمين والضالع فقد وجهت إلى العمليات بأن يرسلوهم إليك بعد أن حقق الأولون انتصارات كبيرة وخاضوا معارك باسلة وملاحم بطولية كما تحكي بذلك تقاريرك إلي وإلى القيادة وسوف أذكرك قريباٍ جداٍ أن أولئك الأبطال وغيرهم من إخوانهم الذين سيلحقون بهم سوف يفجرون الثورة بالسلاح الذي أصروا على الاحتفاظ به فقدم لهم الشكر نيابة عني وأعطهم “فكوكاٍ” “تصاريح” بالعودة بسلاحهم واصرف لهم المرتبات ولا حاجة لعرض هذا الموضوع على الاجتماع الأسبوعي. فاعتبر هذا أمراٍ من القائد الأعلى وما عليك إلا تنفيذه وأشكر لي نائبك الملازم الثائر علي علاية فلولا رجاحة عقله لحدث ما لا يحمد عقباه… حينها انزاح الهم من صدري وما كاد الاجتماع ينتهي حتى عدت إلى محور خولان يوم الجمعة لأبشر الإخوة والزملاء بهذا الحل فاستبشروا وصاحوا بصوت واحد يحيا السلال يحيا الزعيم يحيا القائد وأمرت بصرف مرتباتهم لكنهم كانوا فوق كرم السلال وسماحته وأخلاقه الوطنية مما جعلني أندم على أنني اختلفت معهم لأنهم رفضوا جميعاٍ استلام المرتبات وطلبوا من عشرة ريالات مصاريف عودة ووعدوا بالعودة بعد عدة أشهر وأصروا على الاحتفاظ بسلاح القتلى والشهداء ليسلموها إلى زوجاتهم وأبنائهم فوافقت وأعدت عليهم تسليم المرتبات فرفضوا قائلين: جئنا هنا لنؤدي واجب الدفاع عن الثورة الأم التي ستشعل ثورتنا ضد الاستعمار قريباٍ بإذن الله..
كان هذا النموذج من الأبطال من أبناء المحافظات الجنوبية وإنكارهم لذواتهم هو النموذج السائد في كل الجبهات حتى أولئك الأبطال الذين قدموا إلينا من حالمين وردفان والضالع والحواشب والعواذل بملابسهم الجميلة كانوا في نفس المستوى من البطولة والشجاعة وإنكار الذات حتى القائد الكبير والزعيم القبلي الشريف الذي شارك معي ومع الشهيد البطل محمد الرعيني قائد الحملة الشيخ راجح لبوزة في فك حصار حجة وفي محور الطور المطيان الأمان وأصحابه كانوا في نفس المستوى من الشجاعة والبطولة وإنكار الذات وعدم الرغبة في طلب المال أو امتلاكه وكل ما امتلكوه هو السلاح الشخصي الذي وجهوه إلى صدور الجيش البريطاني في الرابع عشر من أكتوبر 1963م”.
– ويختتم نجل السلال: “ما زلت أتذكر حين عدت إلى صنعاء لأقدم تقريراٍ حول فك الحصار عن مدينة حجة.. والدي المشير – رحمه الله – أمر زوجتي أن توقظني من نومي بعد رحلة طويلة ومهمة شاقة وإرهاق أمسكت سماعة التلفون قال لي مرحاٍ مسروراٍ كعادته: سمعت أخبار الجنوب¿ أجبته بأنني لم أسمع شيئاٍ .. قال: السلاح الذي خرج به المقاتلون الأبطال من أبنائنا في الجنوب قطع ونفع فجروا به الثورة مساء أمس الرابع عشر من أكتوبر بقيادة البطل لبوزة هل صدقتني¿¿”.. انتهت شهادة السلال..